ياسين تملالي *
على الرغم من كل دعاية السلطة لتقديم انتخابات 17 أيار التشريعية كموعد «فارق مصيري»، لم تتجاوز نسبة المشاركة فيها حدود 36 في المئة. وقد سارع وزير الداخلية، نور الدين زرهوني، تفسيراً لهذه النسبة الهزيلة، إلى التنديد بـ«الأحزاب التي لم تؤدِّ دورها في تجنيد المواطنين». وحذا حذوه بعض المحللين السياسيين الذين أكدوا، كل بلغته «العلمية» الخاصة، «تراجع الاهتمام الشعبي بالسياسة».
وإذا كان «تراجع صدقية الأحزاب» واقعاً لا جدال فيه، فإنه واقع لم يأتِ من عدم، فهناك ما يفسّره في تاريخ المرحلة العصيبة التي تجتازها الجزائر منذ إلغاء نتائج انتخابات كانون الأول 1991 التشريعية. إلغاء هذه الانتخابات التعددية، الأولى من نوعها في تاريخ الجزائر المستقلة، كان في الحقيقة بداية نهاية النظام التعددي الذي تمخض عن انتفاضة أكتوبر 1988. وقد جاء إعلان حالة الطوارئ في 1992 مكمّلاً له ليجعل ساحة المواجهة السياسية الفاعلة حكراً على «المسلّحين»، أجهزة الأمن والمنظمات الإسلامية المسلحة.
باسم حالة الطوارئ، أحكم النظام قبضته على الساحة السياسية، محوّلاً النقاش الثري الذي عرفته البلاد بين 1988 و1992 إلى خطاب أحادي مجترّ عن أولوية «اجتثاث الإرهاب». وهو إن لم يحظر الأحزاب المعارضة له، فقد ضيّق من نشاطها، فمنع التظاهرات والاجتماعات العامة إلا بإذن من الولاة بعدما كانت تنظم بمجرد تصريح من عدة أشخاص. وأعاد إغلاق وسائل الإعلام الحكومية في وجه كل من لا يهلّل «لنجاحاته».
حالة الطوارئ وتحجيم العمل الحزبي المستقل
عام 1992، حتى قيادة الحزب الواحد الأسبق، جبهة التحرير الوطني، ضمّت صوتها إلى صوت التيارات الداعية إلى «مصالحة وطنية» مع جبهة الإنقاذ المحظورة. أما ما يدعى بـ«التيار الاستئصالي» الداعي إلى القضاء على الإسلام السياسي، فلم يكن في نظر النظام مأمون الجانب تماماً، فاكتفى باستعماله في دعايته ضد الإرهاب، فاتحاً له بعض المساحات في الصحافة الموالية له. لم يكن للسلطة العسكرية من قاعدة ترتكز عليها في بداية الأزمة سوى بعض الأحزاب الصغيرة التي قبلت المشاركة في المؤسسات الانتقالية المعينة ولم يكن لها من برنامج سوى مساندة القوانين الليبرالية التي مُرِّرت بسهولة في أوج الفلتان الأمني. وقد أعطى سلوك هذه الأحزاب للمواطنين صورةً بائسةً عن النشاط الحزبي: صورة الاسترزاق الخالي من كل اقتناع إيديولوجي.
وسرعان ما أدرك النظام حاجته إلى أجهزة حزبية حقيقية يعتمد عليها لخوض انتخابات 1997. فقرر أن «يصنع» حزبه الخاص، «التجمع الوطني الديموقراطي»، وأن يسترجع ابنه الضال، جبهة التحرير الوطني، بتنصيب قيادة موالية له على رأسها. وقد تلخص دور هذين الحزبين منذ 1997 في تزوير الانتخابات وتبرير المتاهة الأمنية. ويمكن بسهولة تشبيههما بحزب واحد جديد ذي رأسين كل همّه ــ عدا توزيع المناصب والامتيازات على كوادره ــ الدفاع عن «الديموقراطية المسؤولة» وعن «مزايا الاقتصاد الحر».
وقد ساهم هذان الحزبان في حصر النقاش السياسي خلال التسعينيات في جدل عقيم عن الوضع الأمني، فوجدت المعارضة نفسها حبيسة معادلة سياسية مفروضة، مبتورة من كل مجالاتها الاقتصادية والاجتماعية. فعلى رغم أن البلاد كانت في طور الانتقال نحو الاقتصاد الليبرالي بكل ما تأتّى عنه من مآسٍ، ظلت المسائل الاقتصادية والاجتماعية شبه غائبة عن النقاش. ونجم من ذلك انحسار صدقية الكثير من الأحزاب وتحوّلها في نظر الرأي العام إلى منظمات مقطوعة الصلة باهتماماته، خلاصة طموحها المشاركة في الانتخابات.
بوتفليقة وتقزيم البرلمان
وقد واصلت سياسة الرئيس بوتفليقة عموماً سابقاتها: دعم الحزبين «الرسميّيْن» واحتواء الأحزاب التي تقبل بالمشاركة في «حكومات الوحدة الوطنية» (حركة مجتمع السلم الإسلامية خصوصاً) وتشجيع الانقلابات داخل الأحزاب التي تحاول الإفلات من سيطرة أجهزة الأمن (انشقاق حركة النهضة في 1999 إلى حزبين أحدهما قَبِل المشاركة في الحكومة)، بالإضافة، طبعاً، إلى التضييق على نشاط معظم باقي الأحزاب باسم قانون حالة الطوارئ الذي ما زال ساري المفعول.
الشيء الجديد الوحيد الذي جاء به الرئيس بوتفليقة منذ تبوّئه كرسي الرئاسة في 1999 هو التعبير جهاراً عن ضيقه بالتعددية السياسية والنقابية. أما احتقاره للمجلس الشعبي، فوصل درجة استغلال فترات عطلة النواب لتسيير شؤون البلاد من طريق أوامر رئاسية لا يسع هؤلاء سوى أن يصوّتوا عليها بـ«نعم» أو «لا»، من دون أدنى حق في مناقشتها. ولا جدال اليوم في أن المجلس في نظر عبد العزيز بوتفليقة هيئة شكلية يُكافأ بالوصول إلى عتباتها أكثر السياسيين حميّة في مساندته. ولا أدلّ على ذلك من قيامه شخصياً بإعداد قوائم ترشيحات جبهة التحرير الوطني والتجمع الوطني الديموقراطي إلى انتخابات 17 أيار 2007.
وبدوره أسهم ارتداد الاهتمام الشعبي بالعمل الحزبي في تحوّل الكثير من الأحزاب إلى ماكينات انتخابية بكل ما يعني ذلك من صراعات في صفوفها من أجل اقتسام حلوى المناصب المنتخبة. وقد بلغت هذه الصراعات في أوساط جبهة التحرير الوطني حدّة غير مسبوقة إبان فترة التحضير للانتخابات التشريعية الماضية، ولم تسلم منها الحركة الإسلامية.
ومن اللافت للنظر التناقض الصارخ بين واقع هذه المعارك من جهة وواقع اللامبالاة الشعبية بالاقتراع، من جهة أخرى. ومن المدهش أن هذه الصراعات لم تتمخّض إلا نادراً عن نقاش مجدٍ حول المسائل الاقتصادية والاجتماعية التي تشغل بال الجزائريين (خصخصة الاقتصاد، إصلاح المنظومة التربوية، إلخ).
وكانت نتيجة «معارك الترشيحات» هذه اقتناع الكثير من المواطنين بأن الانتخابات بالنسبة إلى معظم الكوادر الحزبية وسيلة لارتقاء السلم الاجتماعي لا غير، وخصوصاً أن النواب الذين فتحوا مداومات نيابية يستـــــــمعون فيها إلى «انشغالات المواطنين» يكادون يُعدّون على أصابــــــــع اليد.
البرلمان كوسيلة لارتقاء السلم الاجتماعي
وقد عملت حكومة بوتفليقة على ترسيخ الاقتناع الشعبي بـ«لاجدوى البرلمان»، مستعملةً في ذلك شتى الوسائل، بما فيها التغطية المتلفزة لنقاشات النواب حول أجورهم في 2002. هذه النقاشات المحتدمة صدمت الرأي العام وأظهرت له الكثير من المنتخبين على «وجههم الحقيقي»، كـ«وصوليين» كل همّهم زيادة امتيازاتهم. وقد تأكّد له هذا الوجه البائس بعدما طالبت العدالة برفع الحصانة البرلمانية عن عشرة نواب متّهمين في قضايا فساد.
وزاد من لامبالاة الناخبين بانتخابات 17 أيار التشريعية الجهل التام لدى شرائح شعبية واسعة بصلاحيات المجلس الشعبي. غير أنه يمكن تفسير هذا «الجهل» بسهولة، لكون المجلس لا يستعمل صلاحياته إلا نادراً، فهو، مثلاً، منذ 2002، لم يقترح سوى مشروع قانون واحد مكتفياً بمناقشة مشاريع الحكومة وبالمصادقة على الأوامر الرئاسية الصادرة إبان فترات عطلته.
بالنظر إلى كل هذه العوامل فإن لامبالاة الجزائريين باقتراع أيار الماضي ليست سوى ردة فعل على لامبالاة معظم النواب بهموم الجزائريين، في وقت تعيش فيه البلاد رغداً مالياً غير مسبوق بسبب الارتفاع العالمي في أسعار النفط والغاز. ويمكن القول للتبسيط بأن الجزائريين لم ينسوا نقاشات المنتخبين الصاخبة حول أجورهم، ولم ينسوا أن معظمهم لم يبدِ التحمّس نفسه في إقناع الحكومة باستعمال الموارد الإضافية الناتجة من ارتفاع أسعار النفط لتحسين ظروف معيشة المواطنين ومحاربة البطالة المتفشّية. أما ما تقدّمه الحكومة تفسيراً للمقاطعة الكبيرة لصناديق الاقتراع فليس إلا نتيجة سياسة متصلة حوّلت الساحة الحزبية إلى «سوق انتخابية» مهجورة يكثر فيها المسترزقون وجعلت من البرلمان صَدَفةً فارغةً تردّد أصداء توجيهات الرئيس.
* صحافي جزائري