ماجد عزام *
بعيداً من العواطف وتجلّياتها المختلفة لا يمكن قراءة تقرير لجنة فينوغراد الذي حفل بالمهنية والموضوعية إلا بنحو مماثل، وهذا الأمر سيأخذنا حتماً في اتجاه الاستنتاجات الأساسية التالية:
ــ لا يجب الاستغراب لكون التقرير تطرّق إلى الأوضاع العامة في إسرائيل وتحدث عن المجتمع والاقتصاد والسياسة والأمن، وفي هذا واقعية شديدة، وبالتأكيد ليس هناك تجاوز للجنة فينوغراد ولصلاحياتها، ففي دولة مثل إسرائيل لا يمكن التطرق إلى واقع الجيش وجهوزيته وآلية اتخاذ القرار فيه من دون إجراء إطلالة أوسع على واقع الحال في المجتمع الإسرائيلي حيث تكمن وتتأكد الحقيقة الساطعة في إسرائيل، وهي أن الجيش تتمحور من حوله الدولة، وليست الدولة دولة عادية تمتلك مؤسسات مختلفة سياسية وعسكرية واقتصادية.
ــ عندما أكد تقرير فينوغراد الفشل والإخفاق في حرب لبنان أشار بشكل وثيق إلى أن ذلك كان تعبيراً وترجمة حتمية للقصور البنيوي الذي يضرب بجذوره عميقاً داخل إسرائيل كدولة وداخل المستوى القيادي بشقيه السياسي والعسكري، وفي هذا الصدد يمكن الإشارة إلى استخدام عبارة ضعف التفكير الاستراتيجي عدة مرات، وأكثر من ذلك تأكيد اللجنة أن تقريرها النهائي سيتضمن توجيه المعركة وإدارتها من قبل القيادة السياسية، إدارة المعركة العسكرية، الاقتصاد السياسي والعسكري ومعالجة الجبهة الداخلية، المفاوضات الدبلوماسية وإدارتها في ديوان رئيس الوزراء ووزارة الخارجية، أمن المعلومات في المعركة، دور وسائل الإعلام، موضوع الإعلام، وكذلك البحث في مواضيع العمق الاجتماعية والسياسية الحيوية لفحص الأحداث ومعناها. والاستنتاج البسيط من المعطيات السابقة أن إلياهو فينوغراد ورفاقه يقررون ضمناً أن ما سموه الإخفاق والفشل العسكري هو نتيجة محصلة طبيعية لكل الاهتزازات والثغرات السالفة الذكر.
ــ لم تكن لغة التقرير أخف وأرحم فى تناول الأداء القيادي للمسؤولين الثلاثة عن إخفاق رئيس الوزراء إيهود أولمرت ووزير الدفاع عمير بيريتس ورئيس الأركان دان حالوتس، ولكي نتلمّس عمق الأزمة القيادية التي تتخبط فيها إسرائيل يجب أن نتذكر أن إيهود أولمرت هو وريث أرييل شارون وحتى مناحيم بيغن بشكل من الأشكال، أما عمير بيريتس فهو كزعيم لحزب العمل ووزير الدفاع وريث لإسحق رابين، ودان حالوتس يعتبر وريثاً لرؤساء الأركان التاريخيين من موشيه دايان حتى إيهود باراك، مروراً بإسحق رابين أيضاً، وإذا كان معلوماً أن أولمرت وبيريتس يفتقران إلى المواهب والملكات القيادية فإن الأمر مختلف حتماً مع دان حالوتس، إذ هذا الجنرال المتغطرس كان يعتبر أحد القادة العظام الذين مروا على الجيش الإسرائيلي وآخر المواهب والعقول الاستراتيجية الفذة بعد إيهود باراك. إن فشل حالوتس له دلالات أعمق بكثير من فشل أولمرت وبيريتس، ففشل الجنرال الأزرق الأول يعني أن حتى ضابطاً بملكات ومواهب خارقة وأسطورية بات عاجزاً عن تحقيق الانتصار وتكريس نمط آخر مختلف في الأداء القيادي، مع العلم أن الجنرال الخارق الآخر أو نابليون إسرائيل أي إيهود باراك فشل فشلاً ذريعاً كقائد وزعيم سياسي، واللجوء إليه والاستنجاد به الآن يدلان على خواء وفراغ عميق، وهو دليل ضعف ومحنة لا دليل قوة ومنعة.
ــ المتابع للواقع الإسرائيلي والقارئ الجيد للتطورات الإسرائيلية خلال العقد الأخير يجب أن لا يستغرب المصطلحات التي استخدمها التقرير تجاه الجيش الإسرائيلي والتي تضمنت مصطلحات ومفاهيم من العيار الثقيل، مثل نقاط الخلل في المبنى والثقافة التنظيمية لديه، وغياب التحديث المنهجي والمتعقل للمضمون الأمني الشامل، الجيش لم يكن مستعداً وجاهزاً للحرب. عام 1993 أسرّ الجنرال إسحق رابين، رئيس الوزراء آنذاك، لصديقه الكاتب الأديب حاييم راز أن أحد الأسباب المهمة والمركزية لموافقته على اتفاق أوسلو يتمثل في معرفته بواقع الجيش الإسرائيلي، وأنه ليس كما يتم تصويره في الخارج، وأن هذا الجيش بات عاجزاً عن تحقيق الانتصارات السهلة والسريعة كما في الماضي. وكلام رابين المهم والمهم جداً نجد برهاناً واضحاً عليه في عجز الجيش عن إخماد شوكة المقاومة الفلسطينية وكسرها لدرجة أن جنرالاً بحجم شارون اضطر إلى الانسحاب من غزة لكي يقصر جبهات وخطوط القتال بالنسبة إلى الجيش المنهك وحتى لكي يدافع عن وجود إسرائيل نفسها في ظل التهديدات والتداعيات الهائلة للاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية والعربية.
ــ إحدى الدلالات المهمة لتقرير فينوغراد تتعلق بالإعلام الإسرائيلي. وفي الحقيقة أن التقرير فضح وكشف هذا الإعلام على حقيقته، إعلام تجنّد خلف القيادات الفاشلة وتحول إلى بوق دعائي ومنبر للتحريض على الحرب والقتل والتدمير ونسي إحدى أهم المهمات التي يوكلها إليه النظام الديموقراطي وهي التشكيك والنقد والفحص والمراقبة. في هذا الجانب كما في جوانب أخرى أيضاً، يجب أن نشعر نحن العرب والإعلاميين بشكل خاص بثقة كبيرة في النفس، فالإعلام العربي وخاصة اللبناني كان أكثر تعددية ومهنية وانفتاحاً من الإعلام الإسرائيلي الذي اقتصر دوره على التطبيل والتهليل للحرب ولجنرالاتها ورموزها.
ــ أخيراً ولعل أخطر وأهم ما في التقرير متعلق بكون هذا الأخير يمهّد التربة ويهيّئ الظروف للحرب المقبلة، فهو لا ينقض فكرة الحرب من أساسها ولا يرفض الحلول العسكرية بصفتها حلولاً فاشلة وغير ناجعة لمشاكل ذات طابع سياسي أو حتى فكري وثقافي وأيديولوجي. إن التقرير يحرّض على ضرورة الخروج للحرب المقبلة بعد اكتمال كل الاستعدادات اللازمة سواء في ما يتعلق بالجيش أو الجبهة الداخلية أو حتى بالمجتمع الإسرائيلي ككل. رئيس الوزراء السابق مناحيم بيغن اعتبر أن حرب لبنان الأولى جاءت لمعالجة صدمة حرب تشرين أول 1973، أي أن إسرائيل ردت على هزيمة أو زلزال 73 بعد تسع سنوات من حدوثه، شهدت خلالها تغييرات سياسية وحزبية واقتصادية واجتماعية عميقة. تقرير فينوغراد يؤكد أن الحرب مقبلة وحتى حتمية، وسواء كانت حرب لبنان الثالثة أو حتى حرباً إقليمية واسعة مع سوريا، فستكون حاجةً إسرائيليةً إلى الرد على صدمة حرب لبنان الثانية للبرهان على تعافي إسرائيل دولةً ومجتمعاً وسلامتها من تلك الصدمة. إن التجارب التاريخية تؤكد أن عصر الانتصارات السهلة وغير السهلة، السريعة وغير السريعة، قد ولّى، إذ لا تستطيع إسرائيل الانتصار حتى على المقاومة الفلسطينية المتواضعة الإمكانية والعدة والترتيب، وتجربة الأيام الأخيرة في فلسطين أثبتت أن ما لم ينجح في بنت جبيل لن ينجح في بيت لاهيا ولا في بيت حانون، وأن المشاكل البنيوية العميقة في المؤسسة الإسرائيلية الحاكمة، سواء في شقها السياسي أو الأمني، أصعب من أن تحل بين عشية وضحاها. إن مشاكل إسرائيل ناجمة أساساً من طبيعة هذه الدولة كدولة استعمارية استيطانية واحتلالية لا تنتهي مشاكلها بمزيد من الحروب، وهذه لن تزول إلا بزوال أسبابها أي بتفكيك الدولة نفسها وزوالها.
كلمة أخيرة لا بد من أن تقال: نحن في العالم العربي لا نحتاج إلى لجان مماثلة، بل نحتاج فقط إلى إعطاء الشعوب حقها في التعبير وفي اختيار قادتها وممثليها وفق نظام انتخابي عادل وعصري ومنصف، وعندها لن تصبح المقاومات على اختلافها والانتصارات التي تحققها استثناءات، بل القاعدة التي تحكم وتعبّر عن الواقع العربي المستجدّ.
* مدير مركز شرق المتوسط للصحافة والإعلام