أمية سماحة

عزيزي يوسف
أتمنى أن أجعلك ترتجف بعد أن تسمع ما حلمت به، تماماً كما كنتَ تجعلني أرتجف عندما تتكلم في السياسة. أجهل ما كانت تحمله إليّ الأحلام من معانٍ في الآونة الأخيرة، ما أعرفه أنّها كانت عنيفة ومزعجة. أخذني إعلان وفاتك إلى منحى آخر، تمكّن الهلع منّي. لم أبك، لكنّي بدأت أرتجف وتسارعت دقات قلبي. صعقت عند اكتشافي مدى قدرتي على السيطرة على مشاعري. لا يمكنني شرح تلك اللحظة، فقد كان وقعها عنيفاً إلى درجة نسيت أنكَ في بريطانيا وتساءلت إن كنتَ ذهبت ضحية سيارة مفخّخة. أتذكّر بخوف كلامك على أنّ الضغوطات التي تواجهها الجريدة قد خفتت، ثم فكّرت بحزن «أخطأت يا حبيبي جوزف. لقد نالوا منك». وسط الضوضاء، سرقتُ لحظة راحة حيث تمكّنت من الانطواء على نفسي والاستسلام. كانت تلك اللحظة بغاية الأهمية بالنسبة إليّ، فقد عشت وضعاً بغاية الخصوصية. دهشت للواقعية التي كنت أتذكرك بها، ثم بدأت تنهال عليّ الاتصالات التضامنية من الناس.
في حلمي، أجد نفسي في كافيتيريا الجامعة وأرى شاباً طريح الأرض تتحلّق حوله زمرةٌ من الطلاب يضايقونه محاولين نزع ثيابه. أهرع لمساعدته وتغطيته، أو على الأقل تغطية أعضائه الحميمة. كي أرتاح أكثر، أحاول نزع سترتي لكنّها تعلق بيدي وتكبّلني. بعدما يجد الشاب نفسه عارياً، يطلق صرخة ممزوجة بالألم والإذلال. هكذا، استفقت مع شعور بالضياع والضعف. المرة الأولى التي احتضنني فيها أحدهم لتعزيتي عن فقدانك، كشفت عجزي عن مواجهة الناس مباشرة. اضطررت إلى إبعادهم لعيش تلك اللحظة واستبدلتهم بـ800 اتصال و2000 رسالة بعثوها معربين فيها عن يأسهم لخسارتك. لا شك في أنّ طريقة تعاطينا مع خبر مماثل يعلّمنا أكثر عن حقيقتنا وذواتنا. لا تهرعوا لمواساتنا... بل امنحونا وقتاً لفهم مشاعرنا والوثوق بها.
أجبرني موتك على مواجهة التقاليد المتجذّرة في الناس إلى درجة أنّ لومها سيكون شريراً وبلا طائل. عشت التقاليد كضغوط مزعجة لكنّها جعلتني أفكر لاحقاً. ينبغي الاعتراف بأنّه يصعب عيش الأمور كما نريد. كان ينبغي التفاوض بصرامة، تقبّل الأمر الواقع والخضوع لبعض الضغوط.
تركتني مع حياة عائلية صعبة، فحوّلتُك برحيلك المبكر عن العائلة إلى كبش فداء أفرّغ فيك كلّ مشاعري العنيفة. الآن وأنا أجد نفسي وحيدة، أتساءل إن كان يمكنني أن أتصرف أفضل مما فعلت أنتَ.
بعد يومين على وفاتك، أشاهد حلقات تلفزيونية عنك. لستُ من بين الضيوف. هذا طبيعي فلا أحد يعرفني. لقد قطعت الأوصال بين حياتينا. كان خطأ فادحاً. وحتى بعد اعترافنا بهذا الخطأ، لم تتغير الأمور كثيراً. كنتَ بغاية السرية إلى درجةٍ لم أعد أطرح عليك أي سؤال. اليوم، لا أريد معرفة ما كنت تخبّئه بل أتوق إلى معرفة سبب حاجتك الزائدة إلى المحافظة على سريّتك. من قال إنّه يمكننا جرح ذوينا من دون أن نكون نحن أيضاً مجروحين؟ إن كنتُ نبذتك أيضاً من حياتي في السنوات الأخيرة، يعتبر السؤال «ماذا كان في إمكاني أن أفعل أكثر من ذلك؟» فارغاً ويسبب ألماً عديم الفائدة.
في النهاية، أصبح التواصل بيننا أخف، بعدما قررتُ تحمّل وحدي التغيّرات التي كنت أطالب بها بحماسة. كنت أخبرتك بآخر المستجدّات والتغيّرات في حياتي وأزعجتك بطلب إخراج القيد الفردي. حين سلّمته إليّ، كانت المرة الأخيرة التي أراك فيها، تلك هي الصورة الأخيرة التي احتفظتُ بها عنك. صورة حزينة. يومها أخبرتني متأثراً بوفاة مي ورحلتَ لمواساة حازم. ولم تنس نكاتك عن «ملوخية» مي.
روى لي حازم أيّامك الأخيرة، كنت سعيداً. أخبرني عن الآلام التي كنت تتغاضى عنها وإصراره على أن تزور الطبيب. كنت طلبت منك أنا مرةً عدم إهمال صحّتك لكن طريقتك اللامبالية في الإجابة أشعرتني بأنّه لا معنى لطلبي. شعرت بالغباء... أطلب من جوزف الاهتمام بصحته، لم أفكّر أبداً أنك ستصاب بسكــــــــــتة قلبية بعد أيام قليلة. كان حازم ينوي الاتصال بطبـــــــــيب من دون علمك، لكنّك رحلت ذاك الصباح. تسلّلت من بين أصابعنا من دون أن نتمكن من الإمساك بك. إهمال الصحة إلى هذا الحدّ قد يكون بخطورة سلاح إجرامي. لم أتوقّع أن أخسرك بهذه السرعة. كنت تبرع في تحليل السياسة، لكـــــــــــنك اخترت تجاهل شخصك وصحّتك. ما نفع الأطباء؟ وأنا؟ بماذا ينفعني غضبي؟ لا أملك خياراً إلا اعتياد غيابك. قالت لي صديقتي وداد حلواني مرة «عاش جوزف في كنف الحرمان ولم يكن له أحد». أعتقد بأنّ الكثير من الأشياء بدأت تتوضح منذ تلك اللحظة. قد يكون حلمي عن الشاب الذي يتعرض للإذلال فيما يستمتع الآخرون بمضايقته ونزع ثيابه، ينبع من شعوري أنا بالعري. لكنّي أعلم أيضاً كيفية تحويل هذا الضيق والحزن لمصلحتي.
لديك عائلة حقيقيّة في الصحيفة. ينتابنا إحساس رائع لدى الوجود مع طاقم يعمل من كل قلبه. أشعر بمحبّتهم والاحترام الذي يكنّونه لك، وأشعر بحزنهم أيضاً. أتمنى لهؤلاء الأشخاص، ولا سيما الشباب منهم، السعادة ومستقبلاً باهراً يستحـــــــقونه. أتمنى أن يتخطوا سريعاً ألمهم العميق ويبدأون بالتفكير في أنفسهم. أتمنى لهم مستقبلاً ناجحاً في الصحيفة أو بعيداً منها، وأطلب منهم عدم الخوف من البحث عن آفاق مختلفة تتطلب الكثير من الشجاعة.
يتمتع بعض الأشخاص الغرباء والمقرّبين بحضور مميز. لكن أكتشف بشيء من الغرابة طرق تفكير أحترمها لكنّها تختلف كلياً عن أفكاري. لاحظت طريقة بعضهم في الدفاع بكل قوتهم عن علاقتهم بك، بالنظر أيضاً إلى أهمية شخصك. لم أكن أفهم حين يقولون «نحن عائلة جوزف». ربما كانوا يعتبرون عائلتك الحقيقية غائبة أو بعيدة عنك. كما لو أنّ الكلمات تخطّت أحياناً المشاعر. ولم أفهم عبارات كثيرة مثل «لم يعد لدينا أقلام في البلد. لن تكونوا يوماً مثله، لن يكون هناك أبداً شخص مثله». أتساءل يا عزيزي جوزف، إن فهم هؤلاء مضمون رسالتك، أنت الذي كنتَ تؤمن بالشباب على رغم كل شيء وبالمواهب حولك وإن لم تكن كثيرة. وضع البلد محبط إلى أقصى الحدود ويغرقك في اليأس، لكن هل يعتقد هؤلاء حقاً بأنّ التغيير يأتي من الخارج؟ شهدتُ يأس كثيرين بدوري. أمام جوزف الشخصية الاجتماعية التي تحصد الكثير من الإعجاب، أملك «جوزفي»... هذا لحسن الحظ.
نملك وقتاً للحزن وآخر للتفكير في إعادة البناء. تلك أوقات ينبغي احترامها عند المفجوع وعدم الخلط بينها. لسوء الحظ، لا يتحمّل الناس الفراغ والغموض. هم يحتاجون إلى سدّ الفراغ سريعاً. خلال محادثاتي مع بعض الأشخاص، بدوا لي أنّهم لا يأبهون لكوني أدرس علم النفس وأنّني أحبه. اكتشفت أنّ كل ما كنت أقوله يذهب سدى، ما دام لا يدخل في مجال الصحافة حيث سأشكّل استمراراً لك وأكمل مسيرتك. كانت ملاحظاتهم مؤلمة أحياناً. كان القلق والرعب يطغيان على المقابلة، وهو ما لم أكن أفهمه بدوري. ولم يكن في إمكاني التعبير عن نفسي مع بعضهم. في الأيام العادية، كان هؤلاء الأشخاص ليتحمّسوا للقائي ومعرفة ما أفعله، لكن هنا كان عليّ تفهّم أنّهم مضطربون. إذ إنّ هذا البلد فطم مواطنيه على توارث المهن في العائلات، إلى درجة أنهم باتوا عاجزين عن الاستيعاب بأنّ هناك طرقاً أخرى لإحياء ذكرى القريب الراحل وضمان استمراريته. هذه الطرق هي شخصية، يصعب على الناس فهمها. عندما كنت تسمعني أتحدث في علم النفس، كنت أراك ترتجف من الحماسة ونفاذ الصبر، إلى درجة كنت تقاطعني لتنتقل إلى سؤالك التالي، متشوّقاً لمعرفة المزيد.
عشتَ حرّاً. تركت جذورك لتسير في طريقك فأصبحت شخصية مبهرة. سمح لك عنادك بفعل كل ما تريده. اسمك جوزف أو يوسف؟ ولدت في أيار أو في آذار؟ تلاعبت بهويتك. هل كان السبب رغبتك في محو الفروقات الطائفية؟ رغبت لو تخبرني بذلك. أعلم أنّك كنت تحبني كثيراً، هذا أول ما تمتمت به ندى زبيب في أذني بعد تقبيل نعشك في المطار ثم أعطتني صورة لي ولزياد كنتَ تحتفظ بها. أشعر بالحنان حين أنظر إليك في الصورة، مثلما كنت تشعر بالحنان لدى رؤيتنا. ينبعث من «جو لو بو» شيء حقيقي وجذاب. اخترتَ البقاء في مونو على رغم كونك مستأجراً. إنّه أمر غريب لكنّه مهمّ جداً لأن ما يشدّك إلى تلك الشقة هو الوسيلة التي ستسمح لي باكتشاف شخصك. لم تكن عودتك إلى ذاك الحيّ إلا عودة إلى شارع طفولتك.
الآن وقد انتقلت إلى الحياة الأخرى، أجد نفسي أسألك أحياناً «ما هو الموت؟»، ثم «أقلب» السؤال على وجهه الآخر، فأسأل نفسي «ما هي الحياة؟»، أودعك مع شعوري بقدرتي على التلاعب بمشاعري، بتحويل ما في داخلي. إنها فرصة بمستقبل سعيد، إنه شعور رائع. سأسمح لك بالرحيل.
إلى الأشخاص الذين ملأوا الشوارع حاملين من جهتي الطريق العلم اللبناني على شرفك، أقول إنّهم سيبقون صورة لن تنسى من هذا الحدث. صورة عفوية وصادقة. إنها صورة شباب «الأخبار» بجمالهم وقوتهم، الذين اختاروكَ وأنتَ اخترتهم. يحملون عينيك، إخلاصك وإيمانك. لهم أقول إنّي سأكون موجودة. أشعر أنك كنت تعني الكثير للعديد من الأشخاص، بعضهم لم يقابلك حتى. أما أنا فأتمنى ألا أنسى ما كنته.
رحلتَ من دون أن يُسفك دمك على يد الإجرام ومن دون أن تمزّقك آلام القلب... رحلتَ بهدوء، يا لها من معجزة. لكني كنت أتمنّى لو بقيت لتشاهد معجزات أخرى. كنت أتمنى لو بقيت لتتعرف بزوجي وأطفالي، وزوجة زياد وأطفالهما، وربما أطفالهم أيضاً. أتمنى أن تكون رحلت وقد شبعت من الحياة. تأكّد فقط بأنّ أحفادك وأحفادهم سيسمعون كثيراً عنك.