عبد الحسين شبيب *
أتى التقرير الأوّلي للجنة فينوغراد ليؤدي وظيفتين أساسيتين: الأولى شكلية تتعلق بتظهير صورة «ديموقراطية» النظام السياسي الإسرائيلي، من أجل توكيد حيويته وتبيان إمكانياته في الاستجابة لقواعد الحكم الشعبي عبر إخضاع قياداته بمختلف مستوياتها للمساءلة والمحاسبة على إخفاقاتها في أي مجال. وهذه الوظيفة لا يُصرّح بها في نتائج التقرير بل تُصدّر للآخرين تلقائياً باعتبار أن هذه الممارسات المفتقدة في بيئة الشرق الأوسط «الديكتاتورية» لا تتم إلا في إسرائيل «المتمرّسة» في تقاليد الديموقراطية.
توجد عدة ملاحظات على هذه الوظيفة أبرزها التالي:
أولاً، إن حرب تموز كانت موضع إجماع إسرائيلي، من قبل الائتلاف الحاكم ومن قبل المعارضة على السواء، ومن قبل الجمهور على الأخص، حيث لم يصدر أي صوت اعتراضي عليها لأنها كانت معركة حياة أو موت، وفرصة «تاريخية» للتخلص من خطر حزب الله الجاثم على الحدود الشمالية، والممتد مداه إلى ما بعد ما بعد حيفا، حسبما أظهرت وقائع المواجهة. وبالتالي فإن مسؤولية النتائج تترتب على المجتمع الإسرائيلي ككل: قيادةً وجمهوراً، باعتبار الأخير فوّض الأولى القيام بها نيابة عنه وبدعم منه.
ثانياً، إن مظاهر «الديموقراطية» الإسرائيلية أُخضعت لمقتضيات الحرب بموافقة الجميع أيضاً، فعملت الرقابة العسكرية والأمنية على كل وسائل الإعلام المحلية والأجنبية، إن بذريعة عدم تقديم معلومات مجانية للعدو (حزب الله) تساعده في تصويب إحداثياته، وإن بذريعة عدم توهين الجبهة الداخلية وإرعابها من خلال صور الدمار والأذى اللذين يلحقهما حزب الله بإسرائيل في الحرب.
ثالثاً، لم يستجب إيهود أولمرت وعمير بيريتس لمقتضيات تحميلهما مع دان حالوتس مسؤولية الفشل في إدارة الحرب، ولم يبادرا إلى الاستقالة كما فعل الأول (استقال بناءً على تقاليد عسكرية بسبب اختبار نظريته الحربية وفشلها وعدم إمكانية استمراره من ناحية مهنية)، بل هما متمسكان بمنصبيهما، وهو ما يخالف تقاليد الأنظمة الديموقراطية، ربما اعتقاداً منهما بأنهما كبش محرقة في عملية التحقيق هذه ذات الوظيفة الرئيسة وهي تبرئة المؤسستين العسكرية والأمنية من مسؤولية الهزيمة.
وهذه هي الوظيفة الجوهرية للجنة فينوغراد، التي خرجت باستنتاجات ــ من مجموع الشهادات التي استمعت إليها ــ لتقول بعدم جهوزية الجيش الإسرائيلي وعدم وجود الخطط اللازمة لديه لمعركة كهذه سميت لاحقاً حرب لبنان الثانية.
هنا تبدأ اللجنة في الانقلاب على المفهوم الأول الذي يُسوّق في شأن «شفافية نظام إسرائيل الديموقراطي»، عبر تقديمها خلاصات للحرب لا تتفق والوقائع المعروفة أو التي سيُكشف عنها النقاب لاحقاً بعد مرور الزمن الذي يسقط الاعتبارات الأمنية والسياسية التي تمس بمصالح الدولة العليا، حسبما تذرّعت الرقابة الإسرائيلية بمختلف فروعها. ولجنة فينوغراد هنا تعمل وفق إطار منهجي يتصل بوجود إسرائيل ككل، لا بمجرد مرحلة زمنية (حرب تموز) يتعين امتصاص تداعياتها من خلال تشكيل لجنة التحقيق هذه وعبر عملية منظمة تدرجت زمنياً في تسريب نتائج تحقيقاتها بحيث لا تشكل صدمة كبيرة كما لو نشرت دفعة واحدة ومن دون تسريب.
من هنا كان الهدف الرئيس للجنة هو تجويف انتصار حزب الله في الحرب وربط الإخفاق الإسرائيلي فيها بأسباب داخلية إدارية، سواء على المستوى السياسي أو المستوى العسكري، لا بقوة الخصم وجهوزيته وعقله العسكري والأمني.
وعليه فإن الإطار الذي حكم عمل اللجنة قام على القواعد التالية:
1 ــ إن «إسرائيل جيش له دولة وليست دولةً لها جيش»، أي إن محور الحياة العامة في إسرائيل هو المؤسسة العسكرية، التي تشكل عنصر الجذب الرئيسي للمستوطن اليهودي من آخر الدنيا لإقناعه بـ«أرض الميعاد» وفيها الأمن والرخاء.
2 ــ الهدف الاستراتيجي من حرب تموز كان استعادة قدرة الردع الإسرائيلية التي فقدها الجيش بعد خروجه المذلّ من لبنان عام 2000، واستمرت في التدهور بعد عملية أسر ثلاثة من جنوده في مزارع شبعا المحتلة في خريف العام نفسه، ومن ثم أسر الضابط في الاحتياط العقيد ألحنان تننباوم، وأيضاً استمرار حزب الله في تعزيز قدراته العسكرية والأمنية وتطويرها على الحدود الشمالية وامتداد نشاطه إلى داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة، لتأتي عملية أسر الجنديين صيف 2006 وتشكل الإعلان الأقسى لتدهور قوة الردع الإسرائيلية.
3 ــ الحرب فشلت في القضاء على حزب الله، والمعطيات المتوافرة لدى الإسرائيليين تقول بأنه أعاد بناء قوته التي تضررت وأضاف إليها مزيداً من التعزيزات والتقنيات والإمكانيات، بحيث فاقمت من خطره بدل أن تقلّصه، وبالتالي أعادت الحرب وضع إسرائيل أمام خيارين: إما تكرار سيناريو العام ألفين وترك الحزب ينمو بوتيرة أسرع ليصعب استئصاله مع الزمن عبر أي خيار عسكري، بعدما أكدت نتائج حرب تموز عقم هذا الخيار، وخرج مسؤولون إسرائيليون شاركوا في إدارة الحرب ليقولوا إن أي جيش في العالم لا يستطيع أن ينزع سلاح حزب الله بالقوة (تسيبي ليفني وزيرة الخارجية الإسرائيلية على سبيل المثال)، وإما القيام بحرب جديدة في فترة قريبة قبل أن تتطور قوة الحزب والاستفادة من الظروف المحلية والإقليمية والدولية بحيث تكون الحرب الجديدة أكثر فاعلية، وقبل أن يفوت الأوان وبعد استخلاص العبر من حرب تموز.
وهذه الآراء موجودة داخل إسرائيل وخارجها في إطار البحث عن وسائل للتخلص من خطر حزب الله، ويوجد انقسام بين من يحفّز على حرب أخرى قريبة، ومن لا يتحمّس لأن النتائج معروفة بالتجارب، ومن يدعو إلى البحث عن خيارات أخرى عبر تفعيل الانقسامات السياسية الراهنة في لبنان وتحويلها صراعات مذهبية وطائفية تمتص قوة الحزب وتحرف وجهة سلاحه من الجنوب إلى الشمال (الداخل اللبناني) وفق تفكير هؤلاء الذين يرون في دفع البيئة اللبنانية نحو فتنة جديدة من شأنها إنهاء خطر حزب الله على إسرائيل وإراحتها من مغامرة عسكرية أخرى معه ليس هناك من يشجعها عليها.
هذه الأطر الثلاثة: إسرائيل جيش له دولة، وفقدان قدرة الردع والبحث عن سبل لاستعادتها، واحتمال القيام بحرب جديدة ضد حزب الله، لا تبيح ولا تسمح للجنة تحقيق ــ توصياتها أصلاً غير ملزمة ــ أن تخرج وتقول في استنتاجاتها إن الجيش الإسرائيلي كان جاهزاً ومستعداً للحرب وعمل بموجب خطط لكنه فشل. فهذا الكلام هو بمثابة إعلان رسمي لنهاية «إسرائيل» إن صح التعبير، لأن نعي قدرة الجيش على حماية الإسرائيليين، يعني فضلاً عن ضرب أبرز عناصر الاجتماع السياسي الإسرائيلي (مجتمع عسكري وليس مدنياً) فتح المجال الإسرائيلي العسكري والأمني على حروب هجومية من الجبهات العربية والفلسطينية وعدم اقتصارها على حروب دفاعية كحال حزب الله في حرب تموز.
وبالتالي كان «منطقياً» أن تلفق لجنة فينوغراد الهزيمة وتلبسها للقيادة السياسية، وتبعدها عن الجيش، لأن بالأصل هذه هي وظيفتها الأساسية، وهي شكلت لتقول إن الجيش لم يكن مهيّئاً لخوض الحرب وكان يفتقر إلى الخطط والبدائل، مع أن شهادات أولمرت وبيريتس كانت واضحة في أن حالوتس لم يشِر في أي لحظة إلى عدم الجهوزية، بل كان يقول العكس. ثم من يصدق أن الجيش الإسرائيلي يذهب إلى حرب ليس مستعداً لها وليست لديه خطط، وتكاد تكون حكومة إسرائيل الوحيدة في العالم التي يشارك فيها كبار الضباط العسكريين والأمنيين في اجتماعاتها ولا تأخذ القرارات المصيرية إلا بموافقتهم، لا بل وفي أثناء الحروب يتولى قيادة إسرائيل، كما هو معروف، وكما حصل في عدوان تموز، المجلس الوزاري الأمني المصغّر.
وهناك دلائل كثيرة تدحض هذه الاستنتاجات أبرزها بنك الأهداف الذي يشكل التشخيص العملياتي للخطط العسكرية، والذي أشبع قادة العدو جمهورهم بالحديث عنه أثناء الحرب. ثم إن إسرائيل، كما هو معروف، لديها خطط جاهزة لجميع المخاطر التكتيكية والاستراتيجية المحددة بموجب نظريتها الأمنية، وهذا أمر لا شك فيه، وعلى سبيل المثال: ألا يوجد الآن لدى رئاسة الأركان الإسرائيلية خطة عملية للتعامل مع التهديد الإيراني، فكيف بتهديد حزب الله؟؟
وقد كشف أكثر من مصدر إسرائيلي، سياسي وعسكري وأمني وإعلامي، عن تدريبات عدة جرت للتعامل مع حرب محتملة مع حزب الله قبل عدوان تموز، لا بل إن صحيفة «يديعوت أحرونوت» كشفت بعد حرب تموز أن ألحنان تننباوم كان اطّلع على تدريب إسرائيلي افتراضي لحرب آتية على الحدود الشمالية قبل خمسة أيام من أسره، (قبل ست سنوات) وعمل قائداً لهذا التدريب الذي سمي «ساكناً شمالياً»، وكان من أهم التدريبات التي قام بها الجيش الإسرائيلي على مدار السنوات الخمس الماضية، وأعدّ لحرب مع سوريا وحزب الله.
* صحافي لبناني