عصام نعمان *
رغم تأكيد الولايات المتحدة أن المحادثات المزمع إجراؤها مع إيران ستقتصر حصراً على الوضع في العراق، فإن العالم يعرف أنها ستتناول بالضرورة قضايا أخرى عالقة بين الطرفين.
تصريحات نائب الرئيس ديك تشيني تنفي أصلاً تلك الحصرية المزعومة. فقد نقلت عنه شبكة «فوكس نيوز» الأميركية للتلفزيون قوله في ختام جولته الشرق أوسطية إن الاجتماعات على مستوى السفراء بين الأميركيين والإيرانيين «ستتركّز تحديداً على الوضع في العراق». لكن التركيز على الوضع العراقي لا يحول دون، بل لعله يتطلب، بحث قضايا خلافية أخرى لها صلة حميمة بسياسة كل من أميركا وإيران في العراق وفي الدول المجاورة له. فنائب الرئيس الأميركي يتهم الإيرانيين في المقابلة التلفزيونية إياها مع «فوكس نيوز» بأنهم «يتدخلون في الشؤون الداخلية للعراق» (...) «لقد اعتقلنا بعض أفراد قوة القدس الإيرانية داخل العراق» (...) «الأمر المهم ان إيران باتت المصدر الأساس لعدم الاستقرار في المنطقة». يُطلق تشيني كل هذه الاتهامات ثم يذكّر بدعم إيران لـ«حزب الله» خلال حرب إسرائيل على لبنان الصيف الماضي، ويؤكد تعاونها مع سوريا «مما جعل الكثير من الناس في المنطقة محبطين».
أكثر من ذلك، قال تشيني: «إننا واثقون من أن هناك عدداً من مسؤولي «القاعدة» الرفيعي المستوى في إيران، وهم هناك منذ ربيع 2003». ثم كشف الدافع الجوهري لجولته في المنطقة بقوله إن «الجميع يركّزون على الوضع الإيراني. إنه أولوية قصوى من حيث الاهتمامات والطموحات المتعلقة بتطوير الأسلحة النووية الإيرانية».
عندما تكون إيران «متورطة» على هذا النحو في العراق، ومع سوريا في لبنان، ومع «القاعدة» في بلاد الرافدين وربما في سائر أنحاء المنطقة أيضاً، فإن المحادثات بين الطرفين الأميركي والإيراني لن تقتصر على الوضع العراقي بل ستتناول بالضرورة القضايا العالقة، الساخنة وذات الصلة، بينهما على مستوى المنطقة كلها.
ماذا تبتغي واشنطن من طهران في محادثات بغداد؟
سيطالب وفدها بوقف التدخل الإيراني في شؤون العراق الداخلية، والكفّ عن دعم فصائل المقاومة الشيعية وغير الشيعية بالسلاح والعتاد، والتوقف عن دعم منظمات المقاومة في لبنان وفلسطين ومنها حزب الله و«حماس» التي تراها واشنطن تنظيمات «إرهابية»، والتخلي عن سياسات متطرفة تجعلها في نظر أميركا المصدر الأساس للتوتر وعدم الاستقرار في المنطقة، وصولاً إلى مطالبتها بتعليق تخصيب اليورانيوم شرطاً لمباشرة مفاوضات ثنائية معها حول كل شيء.
ماذا تبتغي طهران من المحادثات؟
إذ تنطلق إيران من بديهية حقها في تخصيب اليورانيوم في إطار بناء طاقة نووية للأغراض السلمية، سيركزّ وفدها على أن الاحتلال الأميركي للعراق وأفغانستان، ومساندة واشنطن الاحتلال الإسرائيلي في فلسطين ولبنان، ووجود قواعدها العسكرية في دول المنطقة بقصد الهيمنة عليها هي جميعاً مصدر التوتر الإقليمي. تطرح طهران ذلك كله وصولاً إلى المطالبة بإنهاء الوجود الأميركي في المنطقة.
هكذا يتضح أن ثمة تناقضاً حاداً بين ما يطلبه كل طرف من الآخر. ثم إن القضايا، وبالتالي المطالب، الخلافية مترابطة على نحوٍ بحيث «لا يمكنك تأخير أو عدم العمل على إحدى المسائل لأن الأخرى لم تحلّ، بل يجب أن تتطرق إلى هذه وتلك» مثلما صرح تشيني نفسه في مقابلته التلفزيونية مع «فوكس نيوز».
إذا كان الخروج من العراق مع حفظ ماء الوجه هو الأولوية الأولى لدى جورج بوش، فإنه يصعب جداً على محمود احمدي نجاد أن يساعده على تحقيقها إن لم يقرّ له غريمه الأميركي بحقه في ما تراه إيران أولوياتها الأولى مرحلياً، وهي تخصيب اليورانيوم دونما تحفظات وتهديدات باستعمال القوة ضدها. والحال أنه لا احمدي نجاد يستطيع تحقيق أولوية بوش من دون ضمان تحقيق أولويته، ولا بوش يستطيع تحقيق الأولوية الإيرانية دونما مقابل.
هل ثمة مخرج من المأزق ـــ المعضلة؟
لا ضوء يلوح حالياً في نهاية النفق. غير أن إشــارة تشيني الرامزة إلى وجود «القاعدة» في إيران منذ 2003 تحفز على التفكير مستقبلاً في إمكان الاتفاق على مخرج من المأزق. لماذا؟ لتفادي العواقب الكارثية للمواجهة القائمة بين الطرفين والمتحوّلة صراعاً ضارياً بين أميركا والإسلام. كيف؟ بالعودة الى الاتفاق على أن «القاعدة» تمثّل تهديداً جدياً وماثلاً لكل من أميركا وإيران. ذلك أن إيران تغاضت عن احتلال الولايات المتحدة أفغانستان عام 2001 لأنه كان لها مصلحة في القضاء على نظام طالبان بما هو أحد تفرعات «القاعدة» وحاضن ناشط لها. كذلك تغاضت إيران عن احتلال أميركا العراق لأنها كانت متضررة من وجود نظام صدام حسين ومن سياسته المناوئة لها. هكذا أسهمت واشنطن، من حيث لا تريد، في تخليص إيران من عدوين إقليميين، الأمر الذي أدى إلى تعزيز قوتها الذاتية ودورها الإقليمي.
في هذه الأثناء حدث تطوران. الأول تعثّر إدارة بوش في العراق وعجزها عن إخماد المقاومة. الثاني إصرار إيران على متابعة برنامجها النووي، رغم معارضة واشنطن وحليفاتها الأوروبيات، ومباشرتها دعم القوى المناهضة للاحتلال الأميركي في العراق، لا سيما المنظمات الشيعية بينها. رافق هذين التطورين توسيع نشاط «القاعدة» في كل من أفغانستان والعراق وامتداده مباشرةً وبوتيرةٍ متسارعة إلى السعودية وباكستان، وبشكل غير مباشر إلى الأردن وسوريا ولبنان والصومال.
هذه التطورات المتسارعة تطرح سؤالاً مقلقاً على واشنطن: هل تتحالف طهران مع «القاعدة» على مستوى المنطقة في تدبير احتياطي تكتيكي لردع الضربة العسكرية الأميركية المحتملة، أو ميداني استراتيجي لمحاربتها بضراوة بعد مباشرتها الضربة العسكرية؟
لا شك في أن أميركا عانت وتعاني من «القاعدة» السنية، فكيف تكون حالها إذا ما اقترنت بـِ «قاعدة» أخرى شيعية؟
الحقيقة أن أميركا اليوم في حربٍ مع الإسلام في دنيا العرب وفي أجزاء من دنيا غيرهم من المسلمين. لكنها ستصبح في حربٍ مكشوفة وشاملة مع المسلمين كافة في جميع أرجاء العالم الإسلامي، بل في العالم كله، اذا ما ركبت إدارة بوش رأسها وشنّت الحرب على إيران وفي ظنها أن الإسلام السني سيقف متفرجاً عليها وهي تحاول تدمير قاعدة الإسلام الشيعي. صحيح أن الفتنة احتمال ماثل بين مجتمعات أهل السنّة وأهل الشيعة في غير مكان، لكنه خيار فاسد ومكروه وغير قابل للحياة عندما تكتشف الأمة أن المسلمين جميعاً، بكل مذاهبهم ومشاربهم، هم هدف الهجوم الإمبراطوري الأميركي الصهيوني.
إن المخرج الوحيد للولايات المتحدة من مأزقها التاريخي مع الإسلام والمسلمين هو في تعديل رؤيتها الاستراتيجية الى مستقبل العلاقات معهم. ذلك يتحقق بسحب وجودها العسكري، بمختلف أشكاله، عاجلاً أو آجلاً، اختياراً او اضطراراً، من شتى أصقاع عالمهم، وبوقف مقاومتها لعودة الفلسطينيين إلى وطنهم وبيوتهم وأملاكهم، فلا تبقى ثمة حاجة إلى «قاعدة» سنيّة أو أخرى شيعية تطارد الأميركيين في أربع جهات الأرض.
الى أن يزف تاريخ صحوة أميركا من كابوسها الإمبراطوري ومصالحتها مع نفسها ومع عالمها، سيبقى الصراع مستمراً بـِ «قاعدة» او أكثر، وباحترام قواعد اللعبة أو من دون احترامها على نحوِ ما نرى ونعاني اليوم في كل مكان.
* كاتب لبناني