حسين عطوي *
كثر الحديث أخيراً عن أسباب عدم تمكن إسرائيل من تحمّل الاستمرار في حرب طويلة، حتى لو كانت لأكثر من شهر، فيما الولايات المتحدة الأميركية قادرة على مواصلة حرب لسنوات.
وفسر الأمر إسرائيلياً بأن الجبهة الداخلية الاسرائيلية قريبة من ساحات القتال، بل إنها في قلب المعركة، كما حصل في حرب تموز الأخيرة، بينما الجبهة الداخلية الأميركية بعيدة آلاف الأميال عن ساحة القتال الدائر في العراق.
ومثل هذا التفسير هو ما دفع إسرائيل إلى الطلب بإلحاح من الإدارة الأميركية خلال حرب تموز العمل سريعاً على إصدار قرار من مجلس الأمن لوقف إطلاق النار لأن إسرائيل لم تعد قادرة على تحمّل الاستمرار في الحرب التي دامت 33 يوماً.
وهو ما جعل واشنطن قادرة على البقاء في حرب عمرها حتى الآن أكثر من أربع سنوات في العراق.
وهذا الأمر يشير الى أهمية الجبهة الداخلية ودورها بالنسبة إلى القوة المحتلة في احتمال أو عدم احتمال حرب تُكبّدها خسائر كبيرة غير قادرة على تحملها، وبالتالي تحول دون قدرتها على تحقيق أهدافها.
لكن نتائج الحرب في العراق جعلت الساحة الداخلية الأميركية في قلب المعركة حيث أدى مقتل أكثر من ثلاثة آلاف وأربعمئة جندي وجرح ما يتجاوز ثلاثين ألفاً الى جعل الأميركيين يعيشون الحرب وآثارها ويشعرون بفداحة خسائرها.
ولهذا لم يعودوا غير مبالين بها، أو على استعداد للاستمرار في تأييد الرئيس الأميركي جورج بوش، أو تصديق كل ما يقوله، وأصبحوا شديدي الحساسية إزاء كل كلمة يقولها، وكان من نتيجة ذلك أن أصبحت أغلبية الأميركيين تؤيد الانسحاب من العراق، فيما شعبية بوش هبطت إلى أدنى مستوياتها ووصلت إلى 28% وهي مرشحة إلى الهبوط أكثر إذا ما واصل بوش عناده واستمر في رفض وضع جدول زمني للانسحاب من العراق.
ولا يقتصر الأمر على الشعب، بل أيضاً الجنود الذين يقاتلون في الميدان لم يعد لديهم إيمان بالنصر ولا بالقدرة على تحمل مواصلة حرب لا يعرفون متى يكونون من ضحاياها وليست لها نتيجة، حيث أفادت مجلة نيوزويك إلى انهيار كبير في معنويات الجيش الأميركي ووصفت حالة الجنود بأنها باتت في الحضيض.
وإذا كان يستطيع بوش الاستمرار في تجاهل كل ذلك، لكونه لا يقيم وزناً ولا قيمة لآراء الشعب، ويتعامل مع الجنود الأميركيين بصفتهم أدوات ووقوداً لتحقيق مشروع المحافظين الجدد ولمنع سقوطهم وانهيارهم، فإنه لا يمكنه تجاهل أو إدارة الظهر لذلك طويلاً، وخصوصاً مع اقتراب استحقاق الانتخابات الرئاسية والنيابية النصفية التي للشعب الدور الأساسي في تحديد من يحكم أميركا في السنوات المقبلة.
صحيح أن بوش لا يهمّه من الناحية الشخصية الانتخابات الرئاسية المقبلة لأن القانون لا يسمح له بالترشح لفترة ثالثة، وهذا ما يفسر أحد أسباب تصلّبه في مواقفه من قضية عدم وضع جدول زمني للانسحاب من العراق، إلا أن الأمر لا يقتصر عليه وحده، فهو جزء من الحزب الجمهوري الذي بات يشعر أن مصيره السياسي في خطر شديد إذا ما واصل جورج بوش هذه السياسات ولم يُعِد النظر فيها سريعاً، وبات يدرك أيضاً هذه الأيام أن إمكانية تحقيق إنجاز ميداني في العراق ليس له أفق، وأن الزمن لا يعمل لمصلحته، ولذلك على جورج بوش المسارعة إلى الخروج من هذا المأزق كي يتفرّغ الحزب لخوض معركة الانتخابات بعيداً من ضغط الوضع في العراق، ولذلك صبر الحزب الجمهوري آخذٌ بالنفاد وهو يرى نسبة الأميركيين الداعية للانسحاب من العراق تقارب 70% إلى جانب انهيار شعبية بوش.
موقف الحزب الجمهوري هذا ليس تحليلاً يستند إلى تصريحات بعض نوابه، بل إنه تعبير عن رؤية قياديي الحزب الذين اجتمعوا أخيراً مع الرئيس بوش في البيت الأبيض حيث أبلغوه موقفاً حاسماً وحازماً مفاده أن صبرهم بدأ ينفد وأن لديه عدة شهور فقط، حتى شهر أيلول المقبل، للتهيئة للانسحاب من العراق.
ونقل عن أحد القياديين قوله لبوش بأن التحدي الأهم هو إيجاد آلية ومخرج مشرف لإخراج القوات الأميركية من العراق.
ومثل هذا التطور الجديد في موقف الحزب الجمهوري يشير إلى أي مدى باتت ساحة القتال في العراق في قلب أميركا، فالخسائر الكبيرة والفشل المتواصل وعدم وجود ضوء في نهاية النفق يسعّر المعركة السياسية في الداخل الأميركي ويزيد من حدة التناقضات ويرجّح كفّة الاتجاه الداعي إلى الانسحاب من العراق قبل فوات الأوان.
على أن موقف الجمهوريين يُظهر مدى العزلة التي يعيشها جورج بوش وفريقه من المحافظين الجدد داخل حزبه وفي أوساط الأميركيين، ويكشف في الوقت نفسه القلق الذي ينتابهم من تأثير الحرب في العراق في مصير الحزب السياسي إذا ما استمرت إدارة بوش في التورط في هذه الحرب، حيث يسود خوف كبير من إنه إذا لم يحرز أي تقدم وظلت القوات الأميركية غارقة في المستنقع العراقي وحصلت الانتخابات وسط هذا الواقع السيء بالنسبة إلى الحزب الجمهوري، فإن هناك احتمالاً كبيراً بأن لا يفوز الديموقراطيون بالرئاسة وحسب، بل وبنسب كبيرة في مجلسي النواب والشيوخ تمكنهم من إحداث تغييرات تشريعية لمصلحتهم والحكم فترات طويلة، ما يؤدي إلى إضعاف الحزب الجمهوري على نحو خطير.
وهذا ما يفسر اللغة الحازمة التي تحدث بها قياديو الحزب الجمهوري مع الرئيس بوش.
إن ما تقدم يشير بوضوح إلى أن الأزمة الأميركية الداخلية تقترب من الذروة كلما اقترب موعد الدخول في معركة الانتخابات مع بداية الخريف المقبل، ولكن هذه الأزمة ما كانت لتحصل لولا استمرار المقاومة بقوة وتمكّنها من تكبيد الجيش الأميركي خسائر كبيرة، الأمر الذي يؤكد حقيقة مهمة وهي أن رفع كلفة بقاء الاحتلال هو الطريق، لا فقط لتفجير جبهته الداخلية والتأثير في سياساته وإرباكه وجعله يتخبّط، بل وإنضاج قراره بالانسحاب من دون تمكّنه من تحقيق أي من أهدافه الاستعمارية.
* كاتب لبناني