نسيم ضاهـر *
يقوم البناء المؤسسي في الديموقراطيات على تداول السلطة وفق روزنامة الاستحقاقات الدورية. يخضع المُتنافسون لمنطوق صناديق الاقتراع فور ظهور النتائج، ويحسم القضاء الدستوري المسألة على وجه المصادقة النهائية.
وفي حال الاعتراض الناجم نادراً عن تقارب الأرقام تقضي المراجعة بإعادة الفرز الجزئي في الدوائر الحامية بغية التدقيق في الحاصل، وتضع حدّاً للتساؤل والجدل، ويسدل الستار على السجال.
لا تجد الديموقراطيات داعياً لاستنفار القوى المسلحة وإحاطة الأجهزة الأمنية بمراكز الاقتراع. كما لا تتقدم منها بالشكر لحسن الأداء، إذ تنساب العملية الانتخابية طبيعياً وفق الأصول المقررة، بحيث يسحب كل مواطن راغب بطاقته الانتخابية، أو يُسجَّل اسمه طوعياً على لائحة القيد في دائرته المعنية، ويقترع بالاختيار الحر في جو من الوقار والمساواة، وحرص فطري على السرية والالتزام بنظام العازل والهدوء.
يتبارى المرشّحون خلال الحملات التي تسبق يوم الامتحان في إظهار محاسن برامجهم وأهلية أحزابهم لقيادة البلاد، وبيان اختلاف الرؤى والمقاربات. بيْـد أنّ المتخاصمين يجتمعون على غاية أساس قوامها أن المواطن المدعو للإدلاء بصوته، إنما يكسب ودّه وتأييده في استشعاره بأنّ عليه القيام بواجب وممارسة لحقٍّ، منه تنبثق المشروعية، وإليه يعود الفصل طبقاً لآليات الدستور والصلاحيات التي توكلها للمشترع أو تنوطها بالسلطة الإجرائية.
تختلف مروحة المطلوب انتخابهم من بلد لآخر، حيث تتوسع بحكم العُرف المؤسس والنصوص في الولايات المتحدة إلى المولجين بالإشراف على النظام من مدعين عامين ومسؤولي الشرطة المحلية. لكن جوهر التفويض واحد بالمحصلة في رعاية دولة القانون والمؤسسات الناظمة للحقوق والواجبات. تتعدد الصيغ لناحية إشراك المواطن في تقرير وانتقاء الهيئات المحلية والمناطقية، وكيفية تحقيق ذلك، سواء بسلة واحدة أو على مراحل زمنية ودرجات وبموجب خصائص محددة تؤول إلى الاقتراع العام حيناً، أو إلى هيئات انتخابية وسطية مصغرة نابعة بدورها من الوكالة الشعبية. وكيفما اختلفت الشروط والشكليات، استقرت الديموقرطيات على مبادئ توسيع الحريات ورفعة المواطن الفرد، واستولدت نظماً متشابهة تستخرج الديمومة والإصلاح من الإرادة الشعبية الصريحة والتوافق على رزمة مسلمات، وفي طليعتها أن أدوات التصحيح متوافرة بحكم القانون تسكن رحم الديموقراطية وتنمو في أحشائها.
يأتي تداول المناصب مكمّلاً توزع واستقلالية السلطات من ضمن مداميك الصرح الديموقراطي. على هذا النحو يلجم نازع التفرّد بالسلطة، وتستقيم السياسة على قاعدة راسخة في عهدة قوانين انتخابية ملائمة، هي أيضاًَ مرشحة للتغيير في بعض النماذج عند المنعطفات تبعاً للتحولات المجتمعية والمناخات وحسب الموروث الدستوري. ومن نافل القول أن مجموع الوسائل المُتاحة إنما يهدف إلى كسر الجمود ومنع التكلّس، ويشحن إدارة الشأن العام بالحيوية وعوامل التجديد والشفافيّة. إن مفاعيل تداول السلطة بائِنة في تدعيم الاستقرار ومؤكّدة بالشواهد التاريخية التي راكمتها التجارب، من حيث تدارك تآكل هيبة الحكم وقطع الطريق على الانقلابية والديكتاتورية. الأصل في الحركيّة وفي مفصلية المفهوم أن التمثيل السياسي أمانة ووكالة خاضعة للمساءلة، تنزع عند اللزوم وتمنح بالمفاضلة الراشدة للحائز على غالبية أصوات الناخبين. يستتبع منطق الاختيار هذا التسليم بضرورة وحتمية رضوخ من خذله الاستحقاق، للقرار الشعبي، ومضاعفة الجهد للفوز في دورة لاحقة أو ترك الفرصة لمؤهل سواه. وعلى هذا المنوال، ينهج مناصروه نزولاً عند قاعدة واجبة والتزاماً بمسلك القبول بالآخر، والانصياع لنتيجة عادلة.
ما كان لهذه الخلاصات أن تدخل حقل الممارسة والاعتراف المتبادل لولا إشباع المجتمع بمعايير المسؤولية، واقتناعه بأن المسار الديموقراطي إنما يوطّد المكتسبات ويهيئ لتجاوز القائم نحو مزيد من الإنجازات. لعبة التنافس المكشوف، رائدها النظري التسابق على الخدمة وعلى النهوض بالقيادة والوفاء بالعهد المقطوع. لذا تفترض هذه المقدمات أهلية المتنافسين واشتراكهم في السعي لترجمة المصلحة العامة، كل على طريقته وأسلوبه ومشربه الفكري وأولويات مفكرته.
يستبطن التسليم بالمحددات والمواصفات قدراً من التماثل في البرامج والنضج في المقترحات. الحقيقة، رغم حدة المنازعة ونبرة الخطاب، أن ثوابت عريضة بمثابة مسلمات ـــ توافقات تحظى باتفاق جماعي عليها، وبالتالي تبقى خارج دائرة النقاش الذي ينصب على تفعيل الأداء الدولتي وهوامش العمالة والظواهر الحديثة ونسب النمو وسلم الضرائب، ويتطرق إلى سبل المعالجة بالمقارنة مع المحقق في الفضاء الأوسع وسائر الدول الشبيهة.
أدّى انهيار المنظومة الاشتراكية إلى اقتلاع العداء من قاموس السياسة، فما من تخوين للخصم واستئثار بالوطنية وامتلاك الحكمة والحلول العجائبية. يمتحن المواطن صدقية السياسيين على محك التجربة، وغالباً ما يرصد الغلو في الوعود والشطط وينفر من القفزات في المجهول. وفي الوجدان العام، ثمَّة ارتياح إلى أن متاريس المواجهة آنية ظرفية، تزول عند الاقتضاء حيال القضايا الكبرى والمصالح العليا للوطن في زمن الشدة والأزمات. تلك لوحة السياسة العامة، لا ينال منها الصخب على أطراف القوس السياسي، يميناً ويساراً، المصنف تعبيراً عن مساحة الحرية وجواز الاختلاف، يستوعبه المراس الديموقراطي ويُؤطّره القانون.
تعمل الديموقراطية على مصالحة المجتمع مع ذاته ومجانبة المصادمات الحادة قدر المستطاع. وليس من ضمان لمناعة مطلقة تحمي من السقطات، سوى أن عامل العودة إلى الشعب دورياً كفيل بالتصويب اللاحق واحتواء مدى الأذى الناجم عن سوء الخيارات. فلقد خرجت إعادة النصاب إلى دائرة الوجوب والوجود، ولم تعد تَرَفاً فكرياً وهندسة نظرية، نتيجة الدروس القاسية التي استخلصتها الديموقراطيات من أخطار المنهج الشمولي الذي استولى على معظم القارة الأوروبية في زمن مضى، وحلّ في مهدها بطبعَتِهِ النازية والفاشية ومشتقاتهما، فضلاً عمَّا لحق بشرق أوروبا المحرر جراء تقليص الحريات وإيقاف السياسة عملياً على حزب واحد. ويجدر الاعتراف بأن «اعتدال» السياسة مطلع القرن الواحد والعشرين، إنما هو الوجه الآخر لأفول السياسة ببعدها الأيديولوجي، وانحسار مسافات التباعد بين التشكيلات، والعمل على إيجاد قواسم مشتركة في ظلال العولمة والوحدات الإقليمية. وما من شك في أن تجانس القاعدة المجتمعية والسير به وفق معايير ناظمة يفضي إلى تلطيف المناخات والحد من التشنّج القومي وتفرد الكيانات بغلافات مُجافية للسائد في الأسرة الدولية.
من المتعارف عليه أنّ السياسة الخارجية شديدة الارتباط والعلاقة بموازين القوى، وأنها، على الدوام، مرآة المصالح في كل حقبة. على هذه القاعدة الثابتة، يبين الاستنتاج أن التبديل الحاصل (أو المحتمل) في مواقع السلطة تبعاً لتداولها، قلما يأتي بتغيير جذري أو جوهري في الاستراتيجية العامة وفي خطوط السياسات الخارجية. إنّ جلّ المتوقع من أبرز الانتخابات المفصلية في هذا المجال، لا يتعدى التعديلات التكتيكية واللمسات، مع الحفاظ على الإطار العام وبنية التحالفات على خلفية الروابط التقليدية وتغليب الأهم على المهم. من هنا يتبين وهم التعويل على تداول السلطة ديموقراطياً باعتباره مفجر انعطافات حادة في السياسة الخارجية ونذير انكفاء (أو تراجع كيفي) عن ثوابتها، نظير الانقلابية والثورية الحالمة. فهذه القراءة مغلوطة في منطلقاتها ومنطقها، إرادوية مراهنة تقوم على حبال من رمال وتسقط المراد الذاتي والشخصانية البحتة على صناعة القرار. واستطراداً، لا يتورّع هذا النمط من التقدير والتحليل عن الاتكال على هندسات من صنع المُخيّلة ونازع الرغبة، تعظم التناقضات داخل الأسرة الدولية وتختزلها بالطابع الصراعي المحض، وتجعل من الشرق الأوسط محدد انشغالات العالم ومختصر النزاعات.
إن إلباس العالم مَشـدَّ الشرق الأوسط واعتباراته الإقليمية، على أهميتها الشديدة وراهنيتها وسخونتها، وليد ذاتية منتفخة وإلمام ضعيف بما ينعقد عليه الشأن الدولي كونياً. فمردّ الحسابات الخاطئة متعدد من ناحية تعريف ماهية الواقع الدولي وتوصيف أركانه وقياس الأحجام والأوزان، إذا ما طرحنا جانباً الانتقائية في تصوير الدوافع الدولية وعصبها. والقصد مزدوج مفاده رمي عبء الأزمات العضوية والمشاكل البنيوية على الخارج، وإغماض الطرف عن الاشتباك الفعلي القائم بين التوجّهات العبثية والسلوك المعتمد دولياً (وبالتالي الهروب من مأزقها) عبر إلصاق الخصومة حصرياً بقادة ومسؤولين، وانتظار الفرج عند انتهاء ولايتهم. كأنّما العالم تسيره نزوات هذا الشخص، أو أن السياسة الدولية مجرد امتداد للصداقات وانعكاس للمزاجات.
إن هذه التبسيطية في ربط النزاع ليست من البراءة بمكان لأنها تهدف إلى كسب الوقت من جهة، وتسجيل انتصارات وهمية عبر تجيير مفاعيل تداول السلطة لصالح سياسات محلية، وإيهام الناس صورياً بجدوى السير بها والاستمرار في اتباعها.
لكل مجتمع شواغله، يبحث الرشد السياسي عن وسائل تلبيتها، وينقسم المواطنون حول الأجدر والأقدر على امتلاكها في لحظة تاريخية معينة. هنا المغزى العميق لمفهوم تداول السلطة وغايته الأساسية. حول هذا المعطى، ومن خلاله، تترتب السياسات وتتبلور ملامح اتصالها بالشأن الخارجي في إطار سيادة العامل الداخلي وتقدمه على سواه. إن الأخذ بهذه المعادلة مفتاح فهم المتغيرات وصحة التوقعات، تحت طائل الانزلاق إلى المراهنة والعيش على التمنيات. ومن البديهيّ أن الاحتراز (والاتزان) في مقاربة المسألة، عنوان الموضوعية الجادة الآيلة إلى احترام الآخر لاكتشاف مدلول خياراته، وبناء نهج حكيم في مقابلها.
مع انهيار المنظومة الاشتراكية لم يعد هناك تخوين للخصم واستئثار بالوطنية واحتكار لامتلاك الحكمة والحلول العجائبية
* كاتب لبناني