أمين محمد حطيط *
بعدما وصلت أميركا الى الطريق المسدود في مشروعها في الشرق الأوسط، المشروع الذي أرادت فرضه بقوة الحديد والنار، ونشر «الديموقراطية»، وجدت نفسها أمام مشهد صعب التجاوز والإغفال لما يــــــــسببه لها من خسائر وآلام، ولا يغير في الحال ادّعاؤها أو ترديد المرددين لطروحاتها، أو الذين يمنّون النفس بانتصارات سحرية لأميركا تجعلهم كما يتوهمون ســــــادة في هذا العالم، والحقيقة هي أن أميركا اليوم تتخبط في مآزقها الدموية من أفغانستان التي انحسر نفوذها فيها الى بعض المدن فقط، الى العراق الذي بات يصدّر لها توابيت تملؤها جثث القتلى من الجنود الأميركيين بمعدل وسطي يبلغ مئة، أما في لبنان البلد الذي شاءته رافعة إنـــــــــقاذ لمشروعها، واعتمدته أداة موثوقاً بفـــــــــعاليتها ونجاحها في بناء الشرق الأوسط، فقد تردّت حال مشروعها فيه وآلت السلطة التي أقامتها الى هيئة معطلة مطعـــــــــــون بشرعيتها ومجردة من أي فعالية يعوّل علـــــــــيها بعــــــــــدما فقـــــــــدت أوراقها الواحدة تلو الأخرى، الى ان كانت الـــــــــــورقة الأخيرة المتعلقة بالمحكمة الدولية، الورقة التي انتزعتها أميركا لاستعمالها هي متى وحيث تريد...
وفي المختصر أن أميركا باتت عاجزة عن بلوغ أهدافها بالقوة العسكرية وحدها، عجز استيقنته بعد 17 سنة من الممارسة، خاضت خلالها أربع حروب واحتلت عبرها دولتين، وانتشرت بقواها العسكرية وقواعدها في ست دول أخرى في الشرق الأوسط.. عجز ألزم أميركا بمراجعة حقيقية لأدائها وسبل تحقيق أهدافها في هذه المنطقة، وكان الاختيار الجديد: التفاوض.
لقد اختارت أميركا التفاوض وكان عليها أن تعتمد قواعده من تهيئة البيئة التفاوضية الى إعداد أوراق التفاوض، لهذا نرى السياسة الأميركية الجديدة تجهد في تهيئة شروط نجاح المهمة من غير توقف عند ما يسميه الشرقيون خجلاً أو حفظ ماء الوجه، أو الالتزام بالكلمة أو الحرص على الصديق أو.. إلى ما هنالك من تعابير تقرأ في قاموس الأخلاق والمثل العليا، فأميركا تريد أن تحمي مصالحها بأي وسيلة.
ونعلم أنه في القواعد العامة للتفاوض يحرص المفاوض الحاذق على جمع أوراقه، ثم ترتيبها، ثم تفعيلها ومنع تعطيل أو انتزاع أو فقدان أي منها، وبعد ذلك يعمد الى تعطيل أو انتزاع بعض أوراق الخصم، لأن المتفاوضين يفرضون مواقفهم بقوة ما يملكون من أوراق يضعونها على الطاولة، ولا يفرضون أو ينتزعون مصالحهم بقوة الحجة والحق، فطاولة المفاوضات ليست قوس محكمة العدل لتبحث عن الحق وتحكم به، بل هي ميدان حرب من غير نار، يكون سلاحها الظاهر الأوراق الممسك بها فوق الطاولة والظهير الذي يستند المفاوض إليه.
أما الأطراف في المفاوضات التي تبحث أميركا عنهم، فهم ليسوا بطبيعة الحال الأنظمة والحكام الذين انصاعوا لها وباتوا تبعاً لها إن لم نقل أكثر، بل إنهم الفئة التي تشكو أميركا منهم، ووصفتهم يوماً بأنهم محور الشر (على السياسة الأميركية)، فتكون الدول في المفاوضات التي تسعى إليها أميركا هي سوريا وإيران، وبقية الجمع هم كورس أو أوراق تستعمل من قبل المتبوع.
ولأن المفاوضات بحاجة الى تهيئة الأجواء الممهدة والملائمة، فإننا نرى أن أميركا مارست وجوهاً عدة لإحداث المطلوب، فطرحت خطة الإنــــــــقاذ في العراق والمتمثلة بالعملية العسكرية المسماة سيادة القانون، وحشدت الأساطيل والجيوش في المنطقة مـــــــلوّحة بالحرب ضد سوريا وإيران، وفي لبنان ترفع ليل نهار سيف المحكمة الدولية فوق رقاب الخصوم وكأنه السيف السحري الذي سيفتح لها طريق أُقفل بعدما كان كل شيء بيدها تقريباً، وفي فلسطين أفشلت حكومة الوحدة الوطنية بإبقائها الحصار على الفلسطينيين ثم أعادت إضرام النار بينهم ليقتل الأخ هناك أخاه... جو صنعته وتعتقد أنه سيمكّنها من التفاوض المريح. ولكنها في الوقت نفسه ومن أجل التفاوض عينه، اضطرت الى التراجع عن كثير من المواقف التي اتخذتها معبراً أساسياً في سياستها، ويسجل في هذا المجال، التقلب في الملف الإيراني النووي، والسعي لجسّ النبض وللتفاوض المباشر مع إيران، تفـــــاوضٌ ظاهره المسألة العراقية والأمن العراقي، وبــــــــاطنه قد يعلم المراقب الخبير مداه. ثم سعيها الى التفاوض مع سوريا وبدء الحديث في مسألة إعادة العلاقات الدبلوماسية الى سابق عهدها، أضف الى ذلك السماح لفريقها في المنطقة بمحاورة إيران وسوريا في الملف اللبناني في الوقت الذي تجهد فيه دبلوماسيتها العلنية الى التأكيد أن موضوع لبنان هو حكر عليها....
ان هذا التناقض في المشهد لا يعني أن أميركا مصابة بانفصام الشخصية الدبلوماسية، بل ان الأمر لا يعدو كونه تطبيقاً حرفياً لمبادئ التحضير للمفاوضات التي تتركز على القول بوجوب حشد القوة للضغط في سبيل الدفع الى الطاولة من دون الوصول الى حد الاحتكاك والحرب، وإبداء حسن النية والليونة من دون الإيحاء بالاقتراب من حافة الصداقة.
وعلى هذا الأساس نقول بأن الوضع في المنطقة اليوم لا يمكن وصفه بالمشحون المحضر للحرب، ولا يمكن اعتباره بالهادئ الذي يتجه الى السلام، بل هو وضع انتقالي تُهيّأ فيه الأجواء لمرحلة التفاوض الجديدة، التي إن نجحت قُضي الأمر وإن فشلت يكون الاحتكام للسلاح هو الحل (طبعاً لا يكون اللجوء إليه فورياً بل يجب إعداد ظروف الحرب أيضاً وهذا غير قائم الآن). إنه تحضير لتفاوض يبدو ان الأطراف لم يصبحوا على استعداد للدخول الجدي فيه لعدة أسباب منها الموضوعي المتعلق بعملية الأوراق التفاوضية جمعاً وترتيباً وتفعيلاً، ومنها الذاتي المتعلق بالأطراف أنفسهم، وخاصة الأميركي منهم الذي استجد لديه تباين داخلي حول المسألة العراقية ورغبة في مسك الورقة هذه من قبل أحد الحزبين الرئيســـــــــيين لاستثمارها في الانتخابات الرئــــــــــاسية المقبلة التي ستفتح معركتها في الخريف المقبل.
إذاً تشهد المنطقة الآن مرحلة التفاوض التمهيدي للتحضير للتفاوض الحقيقي وتكون هذه المرحلة متميزة بعدة خصائص، منها الغموض وعدم الاستقرار وبؤر التفجير الأمني الدموي والتنافس على الأوراق والتهويل على الخصم الى آخر المعزوفة المعروفة في فترة ما قبل التفاوض الجوهري.. وسيكون للمناطق الساخنة في المنطقة النصيب الأساس والأوفر من الحركة والضغط..
بهذا المنظار نراقب التحركات الأميركية في المنطقة وآخرها زيارة ويلش للبنان، الزيارة التي قد تكون هدفت الى تحقيق عدة أمور، منها إجراء دراسة ميدانية للتحضير الجدي لموضوع رئاسة الجمهورية لفرض رئيس تابع لأميركا يكون بمثابة الموظف في مكتب الشرق الأوسط في الخارجية الأميركية، يُعيّن عبر شكليات تمارسها جماعة تقارب نصف مجلس النواب، فإن نجحت يكون قرار تصوغه أميركا في مجلس الأمن على منوال القرارات اللاميثاقية السابقة وتقتحم السيادة والشؤون الداخلية اللبنانية وتعلن المعيّن ذاك رئيساً على رغم افتقاره إلى الشرعية الدستورية والميثاقية، رئيساً للبنان كما هي حالها اليوم مع جماعة السنيورة الوزارية التي تعتبرها الحكومة الشرعية المنتخبة ديموقراطياً... قــــــــد يكون هذا ما يحضّر ويلش له في زيارته، وهو احتمال، لكن الزيارة في رأينا كانت لها وظيفة أساسية وذات أولوية متقدمة على ما عداها، هي إعادة استنهاض جماعة أميركا في لبنان لتفعيل الورقة اللبنانية باليد الأميركية على طاولة التفاوض الإقليمية التي يحضّر لها، وصنع البيئة التي تجمعها، ونخشى أن يكون الأمن هو الطريق الى التجميع (وهل أحداث طرابلس بعض منها)..
المنطقة الآن في مرحلة انتقالية (لا حروب حقيقية فيها) مرحلة تعبر فيها أميركا من استراتيجية النار الى استراتيجية الطاولة (لبنان ليس هو القضية الأساسية فيها، بل إنه ملف أو ورقة مساعدة). ويبقى السؤال متى يبدأ التفاوض الفعلي، ومتى ينتهي؟ وهل سيكون هناك حلول؟ إن الجـــــــواب هنا يبقى رهـــــــــن سرعة الأطراف في إنجاز ملفاتهم التفاوضية واختيار التوقيت الملائم للبدء.. والأمر يتطلب وقتاً لا يحسب باليوم والأسبوع، وقد لا تكفي الشهور لإنجازه، فهل سننتظر السنتين المقبلتين؟ لنرَ.
* عميد ركن متقاعدـــــ خبير استراتيجي