محمود حيدر *
لو كان لنا من توصيف إجمالي لمعنى المواجهة بين العدو الإسرائيلي والمقاومة، لجاز القول إنّها في أحد تعبيراتها مواجهة تستعيد الأسس الأخلاقية لمفهوم الحرب. ففي الأعمِّ الأغلب دلَّ تاريخ الحروب، وحروب منطقتنا بوجه مخصوص، على احتجاب هذه الأسس لدواعٍ شتّى.
ومن معاينة إجمالية لتجربتها، وجدنا أنّ المقاومة أفلحت في تظهير العامل الأخلاقي على غير مستوى: في المواجهات العسكرية والسياسية، وفي إدارة المجتمع الأهلي، وفي إعادة الاعتبار إليه كعامل مركزي في استراتيجيات الحرب.
حين يجري الكلام على مثل هذا التظهير، فذلك لايعني أنّ الأخلاقية هي مجرد قيمة مضافة إلى الممارسة العامّة للفعل المقاوم. إنّها تدخل دخولاً بيِّناً في أصل الفعل. أي بصفة كونها فعالية سارية في الطبقات الفكرية، والمعرفية، والعلمية المكوّنة لمشروع المقاومة.
تدخل الأخلاقية إذاً، كأصل تكويني للمقاومة. وعلى هذا النحو، هي حالة معرفية تتجلى في السلوك، عبر سيْريّة تربوية عادة ما تترسخ من خلال اتحاد النظر والعمل. وهنا يصُحُّ القول: إن مثل هذا الاتحاد، لم يكن ليُحصّل في الواقع، لولا الحضور المبين للتبصر الخُلقي. إذ من هذا الحضور بالذات يمكن الكلام على أصالة الأخلاق وفعليتها في إنتاج وتوليد التبّصر الخلقي. ولسوف نتبيّن مثل هذه السَّيْرية، متى اتضح لنا أن الأصالة الأخلاقية لدى المقاومة الإسلامية اللبنانية، هي من مقتضيات الحقيقة الدينية. وهي مقتضيات تحتل المقام الأول لمرجعية المقاومة. إذ من داخل هذه المرجعية بالذات، سوف تتشكل ثلاثة أحياز معرفية تؤلف عمارة وجودها:
ـــــ الحيّز الأول: المعرفة الإيمانية (التوحيد).
ـــــ الحيّز الثاني: المعرفة الدينية (الشريعة وفروعها).
ـــــ الحيّز الثالث: المعرفة السياسية، المؤيَّدة بالحيّزين المعرفيّين السابقين.
مع توافر هذه الأحياز ضمن بنيان مرصوص، تغدو الحقيقة الدينية سارية في الزمان والمكان، وتمسي أخلاقيّاتها راسخة في مجال الظهور والتمّثل. ففي الترسيخ الجامع بين الأحياز المعرفية الثلاثة لا يعود يكفي مجرد الاقتران بين النظر والعمل، بل ينبغي أن يبلغ العمل درجة يصبح معها عامل إمداد وتفعيل للنظر. بل ويشكّل عامل تجديد، وإبداع للمفاهيم والأفكار والاستراتيجيات، مثلما يشكّل تسديداً للممارسة، بأسبابها، وآلياتها، وطرائقها المتعددة. على هذه الأحياز ـــــ المتصلة برباط وثيق في ما بينها ـــــ يستوي البعد الأخلاقي للمقاومة، بما هو بعدٌ مُتَّخذٌ من القرآن الكريم بواقع اختزانه حقيقة الشريعة؛ وكذلك من الميراث اللاّمتناهي للحقيقة المحمدية الممتدة عبر الزمن؛ وتالياً من السيرة التاريخية للأنبياء والرسل، والأولياء، وأئمة أهل بيت الرسول وصحابته.
أمّا الحديث عن مذهب أخلاقي للمقاومة، فلزومُه رسم خريطة إجمالية لمجالات سلوك المقاومين في الحرب، والسياسة، والاجتماع الأهلي. فالأخلاقية ـــــ كما سنبيِّن ـــــ تبقى مجرد أحكام اعتبارية مخرّجة بكلمات صمّاء، ما لم تتحيّز في حقول الممارسة. وعند التحيّز لا يعود السؤال عن معنى الأخلاق منفصلاً عن مجال العمل. حيث يتحدد المعنى من خلال الطريقة، أو المذهب، اللَّذين يستعملانه في الواقع. ولنا هنا أن نلاحظ طائفة من المجالات، تظهر فيها أخلاقيات المقاومة كتجلٍ لتكامل النظر والعمل، ولاتحاد النظرية والممارسة، وللموازنة بين أضلاع القدرة والعقلانية، والبعد المعنوي والحضاري لمشروع المقاومة. غير أن هذه «الحزمة المعرفية» ستؤول في الطواف الأخير إلى ما يمكن أن نسميه «ميتا ـــــ ستراتيجيا المقاومة»، حيث يندرج التبصّر الخُلقي بوصفه قيمة عليا ضمن مراتبها المتعددة.
وللتوضيح نذكر ملاحظتين تتصلان بالمفهوم وتسوِّغان له:
الأولى: إنّ حرب المقاومة على إسرائيل، وحرب إسرائيل على المقاومة، تفارقان من وجهٍٍ أساسي منطق الحروب المألوفة. إذ إنّهما تدخلان في منطقة احتدام ذات سمة فوق سياسية. وهو ما نعني به «الاحتدام الميتا ـــــ ستراتيجي»، إذ عندما يُستعمل هذا المفهوم، أو ما يوازيه في علم الحروب والصراعات الكبرى، سوف يتبين لمن يأخذ به، مركزية الإيمان الديني، وحضور الاعتقادات الغيبية في الزمن السياسي. وهذا يعني أن نشوء المفهوم ما كان ليتحصَّل خارج نطاق الحراك العام. وبالتالي فإنّ «الميتا ـــــ ستراتيجيا» هي وليد موضوعي واقعي، ينمو، ويتطور، ويتكامل، ضمن سيْريَّة الالتقاء الحميم بين الإيمان الديني، ومنظومة، الأفكار، والخطط التي تعكس المصالح السيادية العليا للأمة. وعلى هذا النحو من الالتقاء بين الغيبي والسياسي تتأسس وظيفة الفكر في الحقل الميتا ستراتيجي.
وهكذا إن وظيفة الفكر، كما يقال، تتضاعف عندما تبلغ الأوضاع حافة الهاوية بين السلام والحرب. وهذا ما يحصل في مشهدية الحرب بين الأطروحتين المعاصرتين، إسرائيل والمقاومة. لكن في النهاية فإن التمييز بين الوسائل الممنوعة والمقبولة في الحرب يفترض حكمة متعالية. إذ إن علم الأخلاق ـــــ كما يقول باسكال ـــــ يتغير تغيراً كبيراً وفق الإيمان بخلود الروح أو فنائها.
وهكذا تتمكن الميتا ـــــ ستراتيجيا من إنشاء منطقة معرفية يمتزج فيها النظر السياسي بالتجربة الإيمانية. كان الاستراتيجيون يقولون: إن أضمن شكل من أشكال العمل والحكمة التي يمكن إدراكُها وتصورُها، وأكثرها فاعلية للانتصار على المدى الطويل، هو عمل الرجل الذي يقول الحقيقة من دون لفٍّ أو دوران، أو قيود. وإن على القائد أن يكون استراتيجياً وفيلسوفاً في الوقت نفسه. لكن عليه ألاّ يضحِّي بالحقيقة على مذبح تسيير الأمور، ومن دون فائدة مجدية للمصلحة العامة. إذ إن كل من اعتاد إخفاء الحقيقة بغية تسهيل العمل الفوري انتهى إلى فقدان قوة تفكيره وسلامته.
هنا يتمظهر التأسيس السياسي للميتا ـــــ ستراتيجيا على نحو ما لوحظت إرهاصاته في تجربة المقاومة الإسلامية في لبنان. ولعل ما هو ظاهر في الصورة الإجمالية، فإنَّا نجده في الارتباط بين السياسة والشريعة. لكن شرط واجبية هذا الارتباط ألاَّ يؤدي في مجال الممارسة إلى الوقوع في داء الماكيافيلية. بحيث لا تتحول الشريعة إلى حقل طيِّع للتوظيف السياسي. فالغاية وفق سيْريَّة هذا الحقل المعرفي السياسي المتَّحد بالغيب، لا تسوِّغ الوسيلة، إذا كانت الوسيلة غير مطابقة لسموّ الغاية ومشروعيتها.
الثانية: وتتعلق بالتعرُّف إلى الشطر الثاني من المفهوم الذي نحن بصدد تأصيله. أي التبصّر. فما الذي نقصد به؟
هو اللحظة التي يتوقد فيها الفكر، ويشع فيها القلب، ويحتدم فيها العمل. حتى ليصبح الفكر والقلب والعمل أمراً واحداً فاعلاً في اللحظة نفسها. عنينا اللحظة التي تستولد المعاني، والأفكار والمفاهيم الخاصة بالحقل مجال الممارسة.
والمتبصّر هو الرائي في فضاء مكتظ بالضباب. بحيث يكتسب المتبصّر إبصاره بصورة جلية وسط غبار المعارك، وأدخنة النار، وسوء الانقشاع.
أما التأسيسات المكوّنة لميتا ـــــ ستراتيجيا التبصرُّ الخُُلُقي، فسنعرضها ضمن طائفة من المجالات بادئين بما انتهينا به:
1. مجال ملازمة الوسيلة الفاضلة للغاية الفاضلة:
الصورة هنا مركبة، سواء في السياسة أو في الحرب. فالمقدمات الفاضلة ينبغي أن تفضي إلى نتائج فاضلة، وخصوصاً إذا أُخِذَت الأسباب المشروعة، لبلوغ الأهداف المشروعة. ولقد كانت الصِدقية من سمات عمل المقاومة السياسي، حيث نأت عن ملابسات النزاع الداخلي، على امتداد أعوام الحقبة الأولى من حرب التحرير (1985ـــــ2000). ثم سعت إلى استئناف سلوك كهذا، رغم التحولات التي طرأت على التقليد السياسي اللبناني، وقوانين تقاسم السلطة بين الطوائف. ولسوف تتعاظم أهميّة هذا المسلك بصورة أكثر فعالية في مجتمع محكوم بوضعية غير عادية، كالمجتمع السياسي في لبنان.
ولعل الطريقة التي حكمت تجربة المقاومة عند انخراط حزبها في الحياة السياسية اللبنانية، شكّلت برغم التعقيدات الجمّة التي واجهتها تحالفاته وخصوماته، لوناً جديداً حلَّ على التقليد السياسي اللبناني. تجلت سيْرِيَّات هذه الطريقة أساساً في الانصراف التام إلى ممارسة حرب التحرير، وفي العلاقة مع المحيط الجماهيري الذي تعمل المقاومة فيه، وفي التعامل مع الإنجازات التحريرية التي توّجت بانتصار ربيع عام 2000، وكذلك في رؤية الخصوم الداخليين بوصفهم شركاء في الوطنية الواحدة، أنّى بلغت درجات الخصومة السياسية معهم. ويمكن أن نسجّل في هذا المجال الإشارتين التاليتين:
الأولى: في المدى القريب: حين تبصّرت قيادة المقاومة حساسية البيئة الداخلية اللبنانية بعد حرب (تموز ـــــ آب) 2006. فقد كان عليها أن تواجه الانتقال الصعب بين عالمين متناقضين: عالم المقاومة ضد عدو تاريخي آلت استراتيجياته الحربية إلى الإخفاق، وعالم الصراع الداخلي مع خصوم سياسيين بلغ الأمر بأكثرهم حدّ المشاركة في حملة سياسية إقليمية ودولية ضد المقاومة، وسلاحها. حتى لقد ظهر بوضوح أنّ الحملة السياسية المشار إليها هي استئناف للحملة العسكرية بوسائل شتّى.
ومنذ اللحظة التي اضطُرت فيها المقاومة إلى الدخول في عالم الصراع الداخلي، راحت تتصرف على قاعدة أنّ هذا الدخول هو أشبه بممر إجباري لا مناص من عبوره لإحراز ثلاثة أهداف مباشرة:
ـــــ صوناً للمقاومة من خطر التصفية السياسية.
ـــــ ومنعاً لمصادرة معنى الانتصار.
ـــــ وحفظاً للسلم الأهلي، والوحدة الوطنية من التداعي والانهيار.
الثانية: وتعود إلى ربيع عام 2000: فلقد كان أمراً استثنائياً في أخلاقيات الحروب، أن تتعامل المقاومة المنتصرة بكثير من التسامح، مع قرى وبلدات ومدن في جنوب لبنان استُخدمت من جانب جيش الاحتلال وأعوانه في ما يسمى «جيش لبنان الجنوبي»، قلاعاً محصّنة للعدوان على المقاومة، وجماهيرها. ولو لم تكن البنية الأخلاقية للمقاومة على قدر من السعة، والرحمانية، والترسُّخ، والتقيّد الصارم بالتوجيهات القيادية، لحصلت مجازر أشدّ فظاعة مما كان يحصل في خلال الحرب الأهلية.
لاحقاً سوف تستتبع هذه القواعد الأخلاقية، ما يوازيها ويناسبها من السلوك السياسي. وسنجد في خطب ورسائل قائد المقاومة من التوجيهات في خلال حرب صيف 2006، ما يشكل على هذا المستوى خطوطاً تسدّد التبصُّر الخُلُقي، ومنها:
ـــــ اجتناب خوض النزاع السياسي والإعلامي مع أي فريق أو حزب أو تيار لبناني، على النحو الذي قد يؤدي إلى فوضى أمنية وظهور الانقسام الوطني.
ـــــ اجتناب الرد بالمثل على أي حادثة في الشارع يمكن أن تشق الطريق نحو تصدُّع السلم الأهلي، أو إيقاد النزاع المذهبي (كمثل اغتيال الشاب أحمد محمود).
ـــــ إبقاء النزاع الداخلي ضمن ميادين الصراع السياسي السلمي، على الرغم من نزوع كثيرين من خصوم الداخل إلى جعل المقاومة وحزبها وحلفائها خصماً صريحاً. حتى لدى أقسى لحظات الحرب التدميرية عليها.
2ـــــ مجال البصيرة الخلقية:
حين نزعت المقاومة من نظرية الممارسة السياسية الكلاسيكية مبدأ «الغاية تبرر الوسيلة، كانت تدرك أن مبدأ كهذا، يمكن أن يأتيها بمنافع مباشرة، ويؤمِّن لها مصالح قد تكون مهمة في معايير اللعبة السياسية اللبنانية. لكن التزام مبدأ الوسيلة الفاضلة للغاية الفاضلة مبدأً أخلاقياً، سيكون له مؤثراته الإيجابية الكبرى على تسديد الإدراك السياسي، وتثبيت أولوية التحرير بوصفه استراتيجية عليا. لقد كان من شأن نهج كهذا أن يُفضي إلى تأليف إجماع لبناني على المقاومة، وهو نهج كان له الفعل التوليدي لمجتمع أهلي ومدني، وسياسي مؤيّد للمقاومة، ومتعاطف معها، وإن بنسبٍ ودرجات تتفاوت بين فئة سياسية وأخرى، أو بين طائفة وأخرى. ولأن البصيرة الخُلُقية استئنافٌ، وتواصلٌ، وتكاملٌ مع قبلها، فهي كذلك وبالمقدار نفسه، تأسيسٌ وتوليدٌ لما بعدها. تنمو هذه السَيْريَّة ضمن مسار منطقي يتعقّل الظواهر والأحداث، ويرى الأشياء كما هي موجودة، ثم ليجد لها محلها المناسب في الواقع.
لنا هنا أيضاً أن نقف قليلاً على مزايا ومناشئ التبصُّر الخُلُقي:
أولاً: تبيّن الفلسفة الأخلاقية بأطوارها وميادينها واتجاهاتها المختلفة، أنّ إحراز مَلَكة البصيرة الخُلقية، ونقلها إلى حيّز الممارسة وحقول التجربة، إنّما يدل على أن الجهة التي أحرزت هذا المقام، بلغت درجة وازنة من التحكّم بأمر نفسها، وبأمر غيرها، بينما هي تمضي في إدارة حركة المواجهة.
ثانياًً: إن عملية التبصُّر أينما وكيفما تأتي، فهي تتمثَّل في إدراك الطبيعة الباطنية الحقّة لإرادات متعارضة معينة. لذا فإنّ البصيرة الخُلقية المطلقة التي نستطيع أن ندركها، لكن لا نستطيع الحصول عليها كاملة، سوف تدرك الطبيعة الداخلية الحقّة لكل الإرادات المتصارعة. ذلك يعني أن معرفة الآخر ضرورية؛ للاعتراف به كموجود سياسي، وهي واجبة على نحو يكون التعامل مع هذا الآخر، بوصفه شريكاً في الوطنية مهما بلغت خصومته لي أو خصومتي له.
ثالثاً: تتضمن البصيرة الخُلقية ـــــ بطبيعتها، وعند الذين يحصِّلونها ـــــ الرغبة في تحقيق الانسجام، قدر الإمكان، بين الإرادات المتعارضة في ميادين التفاعل، ولا سيما تلك التي تُدرك في لحظة التبصّر.
رابعاً: إذا كانت البصيرة الخُلُقية تهتم مباشرة بإرادتين متعارضتين، مثل إرادتي وإرادة شريكي في المواطنة، فإنّ هذه البصيرة تتضمن الرغبة في الفعل، كما لو كنت أنا وشريكي في المواطنة كائناً واحداً، بحيث يشتمل هذا الكائن الجديد على رغباتنا معاً.
خامساً: إذا كانت البصيرة الخُلقية تعمل ضمن غايات عامة متصارعة، كما هو حال لبنان، فستبدو الصورة حينئذ، كما لو كان الفرد الذي يدرك هذه الرغبات المتعارضة، يحوي حياة كل هذه الرغبات ضمن وجوده الخاص. ومتى أتقن الفاعل روح التبصّر، فإنه يضع في اعتباره كل نتائج الفعل، وأثره على كل الغايات التي قد تتأثر به.
سادساً: ما دامت البصيرة الخُلُقية المؤيَّدة بالتوحيد تتصرف على أساس أنّ الآخر هو شريك في الفعل الإجمالي للأمة، فمن البديهي أن يصبح هذا الآخر، بما هو آخر إيجابي، أحد مقومات معرفة الذات، بل وأحد الأعمدة الأساسية لأفعال الأنا في المحيط الذي تتحرك فيه. وعلى مبدأ «لا ينبغي أن يكون الآخر إلا على نصاب ما أنت فيه» يمكن أن تولد ممارسة سياسية من نوع جديد. عنينا بها، الممارسة التي تتعارض فيها البصيرة الخُلُقية مع كل صور الدوغمائية، المبنية على غاية أخلاقية أحادية، ولا تستطيع أن تمنح سواها من الغايات، مساحة من القبول والإصغاء.
سابعاً: بمقتضى البصيرة، الخلقية المسددة، بالحقيقة الدينية، تغادر «الأنا» أنانيتها الصمَّاء، وهي إذ تفعل ذلك، فمن أجل أن تصل الغير وَصْلَ الوحدة الإنسانية المشتركة. ثمَ ليحملها الإيثار والغيرية على التضحية من أجل تلك الوحدة. حيث الاستشهاد في هذه الحالة يجسد أعلى درجات القبول والتواصل مع الآخر، وبالتالي أرقى مراتب التمثيل الأخلاقي في العلاقة مع الغير.
ثامناً: إن مجال التبصّر لا ينشأ إلاّ على أرض المقاومة؛ بما هي أرض لا تحدّها مضائق الإيديولوجيا الصارمة، ولا تحبسها عن التواصل فكرة حزبية مغلقة. إذ إن من طبيعة هذا المتسع الإنساني أن تغادر حسابات المصالح الآنية قلاعها المغلقة، وتتحول تلك الأرض إلى حقل خصيب للنمو، والاختلاف، والتعددية الخلاقّة.
* باحث لبناني