وسام جميل الصليبي *
في أول أيام معارك نهر البارد، عنون أحد المواقع الإخبارية الإسرائيلية الإلكترونية مقالة عن أحداث مخيم نهر البارد بالتالي: «اللبنانيون يقطعون الكهرباء والمياه، ثم يقصفون المخيم الفلسطيني». وعلى موقع إلكتروني آخر لجريدة هآرتس، قرأت تعليقات ساخرة على أحداث شمال لبنان تقارن بين هذه الأحداث وحرب تموز ــ آب 2006 من ناحية مقتل المدنيين والقصف العشوائي.
وقامت بعض الجمعيات اللبنانية والفلسطينية والمنظمات الدولية والجهات السياسية باستنكار التعرض للمدنيين الفلسطينيين في مخيم نهر البارد، وقد اتجهت بعض المنظمات إلى شمال لبنان للتحقيق في ظروف مقتل المدنيين وأعدادهم في مخيم نهر البارد، نذكر منها الجمعية الفلسطينية «شاهد». وقد أكدت هذه الجمعية أن حجم الخسائر البشرية في صفوف المدنيين الفلسطينيين قد تخطت بكثير قتيلاً و19 جريحاً كما ادعى الجيش اللبناني في بيانه الصادر في 24 أيار.
لا يجب أن ينسينا الخوف أهمية دور القانون الدولي الإنساني في ما يجري اليوم في لبنان. من الضروري معرفة وفهم وتطبيق ومناصرة تطبيق هذا القانون في زمن يتخوّف فيه اللبنانيون من نزاعات مقبلة. فهو الضابط للهمجية التي شاهدناها في الحرب اللبنانية والتي يبدو أننا لم نتعلّم منها.
القانون الدولي الإنساني هو قانون النزاعات المسلحة، فهل نحن أمام نزاع مسلح؟ لا بد إذاً من توصيف أعمال العنف التي جرت وتجري في شمال لبنان، ثم ننطلق من هذا التوصيف لتحديد ماهية ومدى القانون الدولي الذي يحكم هذه الأحداث، وما هي تطبيقاته الفعلية ضمن إطار الأحداث التي نشهدها في لبنان؟
توصيف النزاع
يميّز القانون الدولي الإنساني بين الاضطرابات والتوترات الداخلية مثل الشغب وأعمال العنف العرضية، والنزاعات المسلحة غير الدولية، والنزاعات المسلحة الدولية. ويطبق القانون الدولي الإنساني على النزاعات المسلحة ــ دولية وداخلية ــ دون الاضطرابات والتوترات الداخلية.
ويميز القانون الدولي الإنساني بين نزاع مسلح غير دولي أو داخلي ذي كثافة منخفضة حيث تطبق المادة الثالثة المشتركة في معاهدات جنيف 1949 فقط، ونزاع مسلح غير دولي ذي كثافة عالية الذي تعرّفه المادة الأولى من البروتوكول الإضافي الثاني الملحق باتفاقات جنيف والمتعلق بحماية ضحايا المنازعات المسلحة غير الدولية وتطبق فيه المادة الثالثة المشتركة والبروتوكول الثاني. وأدخل القرار الشهير لغرفة الاستئناف في المحكمة الجزائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة في قضية تاديتش، الصادر في تشرين الأول 1995، معياراً جديداً في تعريف النزاع الداخلي بما هو معيار زمني. وقد كرس نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية عام 1998 في المادة 8 فقرة 2(و) هذا الاجتهاد، إذ عرّف النزاع المسلح الداخلي بـ«المنازعات المسلحة التي تقع في إقليم دولة عندما يوجد صراع مسلح متطاول الأجل بين السلطات الحكومية وجماعات مسلحة منظمة أو بين هذه الجماعات». العنف المسلح الداخلي يتحول نزاعاً مسلحاً داخلياً إذا طال أمده (Protracted armed violence; violence armée prolongée).
هذا التطور في تعريف القانون الدولي الإنساني يطرح تساؤلات فقهية عن تعريف النزاع المسلح وفئاته لن ندخل فيها. وبالعودة إلى أحداث شمال لبنان، يتجه مجموع المؤشرات الواقعية factual indicators إلى إمكانية توصيف أعمال العنف المسلحة التي تدور بين الجيش اللبناني ومجموعة «فتح الإسلام» بالنزاع المسلح الداخلي. نذكر من هذه المؤشرات:
• قيام أطراف النزاع بأعمال عسكرية مخططة ومنسقة.
• تطاول أمد العمليات العسكرية التي لا تشكل أعمال عنف معزولة.
• ممارسة مجموعة «فتح الإسلام» المسلحة سيطرتها على أجزاء من أراضي مخيم نهر البارد ما يمكّنها من القيام بعمليات عسكرية متواصلة ومنسقة.
• وجود على ما يبدو قيادة مسؤولة Responsible commandment في «فتح الإسلام»، إذ إن التقارير الإعلامية أشارت إلى أسماء قادة، منهم من قتلوا، ونوع من التراتبية.
إذاً، بناء على المعلومات المتوافرة عن أحداث شمال لبنان، من الممكن اعتبار أن أحداث نهر البارد تخطت عتبة الاضطرابات الداخلية وارتقت إلى مستوى نزاع مسلح داخلي. وستحسم التطورات المقبلة التوصيف إذا ما اتجهت نحو احتدام المواجهات. ويكون النزاع القائم هو بين مجموعة «فتح الإسلام» المسلحة من جهة والجيش اللبناني وبقية قوى الأمن اللبناني من جهة أخرى.
صدّق لبنان على معاهدات جنيف الأربع في 10 نيسان 1951 وانضم إلى البروتوكولين الإضافيين في 23 تموز 1997. إذاً، لبنان كرّس في منظومته القانونية أهم وأحدث المعاهدات الدولية التي تطبق على النزاعات المسلحة. وهو ملتزم بمضمونها. والمعاهدات تسمو على القانون المحلي.
والمعاهدة التي تطبق إذا اعتمدنا توصيف النزاع الداخلي بين مجموعة «فتح الإسلام» المسلحة والجيش اللبناني هو البروتوكول الإضافي الثاني الملحق باتفاقات جنيف والمتعلق بحماية ضحايا المنازعات المسلحة غير الدولية عملاً بالفقرة الأولى من المادة الأولى من البروتوكول الثاني، وتُطبق أيضاً المادة الثالثة المشتركة لمعاهدات جنيف الأربع. ويُطبق صلب أو جوهر القانون الدولي لحقوق الإنسان الذي لا يمكن تعليق تطبيقه في حالات النزاعات (منع التعذيب، منع التوقيف الاعتباطي، منع الاختفاء القسري، محاكمة عادلة، إلخ)
إضافة إلى هذه المعاهدات، الدولة اللبنانية ملزمة بالقانون الدولي الإنساني العرفي. لكن لماذا اللجوء إلى القانون الدولي الإنساني العرفي ما دام لبنان كرّس في قانونه أهم وأحدث المعاهدات الدولية التي تطبق على النزاعات المسلحة؟
مبدأ التمييز بين المدني والعسكري مكرّس في كلا البروتوكولين الأول والثاني في عام 1977، بينما مبادئ أخرى شديدة الأهمية لحماية المدنيين هي مكرّسة في البروتوكول الأول في عام 1977 فقط (نزاعات دولية)، لا في البروتوكول الثاني. هذه المبادئ أصبحت اليوم جزءاً من القانون الإنساني الدولي العرفي الذي لا يُطبق فقط على النزاعات الدولية، بل أيضاً على النزاعات غير الدولية. نذكر من المبادئ التي تطبق على النزاعات الداخلية عرفاً مبدأين:
أولاً: موجب الحذر والاحتياط في الهجوم الذي يفرض على المتحاربين أن يتخذوا خطوات عملية لحماية المدنيين، وقد طالبت باحترامه منظمة مراقبة حقوق الإنسان Human Rights Watch في بيانها الصادر في 23 أيار 2007. ثانياً: مبدأ التناسب الذي ينصّ على أن الخسارة العرضية لأرواح المدنيين أو إلحاق الضرر بالأعيان المدنية لا يمكن أن تكون مفرطة قياساً بالمنفعة العسكرية الملموسة والمباشرة المتوقعة. المسؤولية عن احترام القانون الدولي الإنساني تقع بالدرجة الأولى على الجيش اللبناني وقوى الأمن اللبنانية والمجموعات المسلحة كـ«فتح الإسلام» (بغض النظر عن الوصف بالإرهابية أو لا). وتتحمل القيادة السياسية والإدارية (المدنية) للجيش، بما فيها مجلس الوزراء، مسؤولية احترام القانون الدولي الإنساني.
* باحث متخصص في القانون الدولي الإنساني