ذاكرة جدّي ترتعشسليم البيك ـــ كاتب فلسطيني مقيم في أبو ظبي

جاء جدّي سليم محمود البيك، وكأنه وصل للتو من هناك. في كل مرة يصل فيها أراه قادماً من ترشيحا. جاء ورائحة البلد وبارود معاركها عام النكبة، وزيتونها وزعترها وتبغها تجول في جيوب جاكيته الترابي اللون وبطانته، وعكازه المعقوف رأسه وطاقيته البيضاء المزخرَفة مثل قبة مسجد تعبوا في نحتها. لهجة البلد لا تزال تتثاقل بين شفتيه وعمق فمه، أحاول دائماً تقليدها لأمحو تطفل اللهجات الأخرى التي ألصقها الشتات على جوانب لساني. بقيت ترشيحا حية طرية فيه رغم قسوة أيام اللجوء ولؤمها. تفاصيل وجهه التي خطّتها أسلاك حاصرت المخيم في زمان ومكان تعربدا بعد النكبة وبعد فلسطين. ملامح جدّي تأخذ ذاكرتي إلى القادم من طرقات ترشيحا وزواريبها وسطوحها وناسها ونسائها...
لديّ الآن، إذاً، فكرة عن طرقاتها، أضيفها إلى ما حكته وما أرسلته لي ابنة عكا من صور، فلا أضيع هناك. أو فلأكن هناك أولاً، وكم جميل حينها أن يضيع الإنسان في قريته. حملت جهازي ــــــ اللاب توب ــــــ إلى سريره حيث تتكدس مجلات وكتب و مصحف ونظارة تعينه على قضمها كلها، وعُدّة حلاقة وعلبة دوائه الذي يناديه «الصفط»، طالما كنت أسمعها منه «صفد». ترسم هذه المقتنياتُ حالةَ لجوء مستقرة مؤقتاً، إلى أن يلتقط شفرة الحلاقة ليمررها على خديه المبللين بالرغوة، فتتجدد حالة اللجوء العنيدة فور رشق وجهه بالماء الساخن، ليبدأ اللجوء بحالة أخرى، كأن الأولى تتجدد كلما نظر إلى المرآة بعد الحلاقة، أو كأنه كلما نظر بدأ بانتظار جديد لحالات قادمة، يشعر بالاقتراب من الأخيرة ويبتعد عن ذكرى طالما خشي أن ينساها أو تنساه. ذكرى لا يبحث عن مهرب منها إلا إليها، حيث لا تكون إلا واقعاً. وإلى حينه يرجع إلى قضم صفحات الكتب والمجلات. جلست على سريره وقلت له محاولاً إمرار بعض من بسمتي إليه: لديّ الكثير من صور ترشيحا.. صور حديثة.. أخبرني عنها كلها.. أسماء الأمكنة.. الساكنين فيها.. أحداث صارت هناك.. وكأنني صدّقتُني بأنه وصل لتوّه من هناك، لا من المخيم الذي اختاره محطة انتظار لعودة طالت. قاطعني متلهفاً وبنبرة يطغى عليها تفخيم في نطق بعض الأحرف يميز لهجة أهل الجليل، من بقي منهم ومن تهجّر: يلاّ جدي... ولك افتحا.. بعدك عمتحكي؟!
بدأ بالحديث بنبرات متصاعدة عن بعض البيوت والصخور والحارات وما تؤدي إليه بعض المسارب والزواريب، بدأ الكلام مثل من جاء حقاً لتوّه من هناك. تكاثفت مع تكاثر الصور حمرة تسللت إلى عينيه وبحة مملحة تخنق صوته، وسرب من القطرات تسبح على وجنتيه، وقلق نزق للملامح وفوضى صمت أهوج. و تنتعش هذه الاختلاطات مع كل صورة لأماكن حديثة. صار يحذر الجزم ويلجأ إلى الاحتمالات عن أماكن ربما كانت هنا قبل النكبة، أكلت التأتأة كلماته. أدركَ عندها أن هنالك أماكن في ترشيحا باتت غريبة عليه. سارعتُ إلى سحب جهازي حين لحظت تكاثف ما تكثف على ملامح جدي الترشحاوية وذقنه الحليقة وشاربه الأبيض الذي ما عاد يصبغه منذ وفاة جدتي، قبل بضعة أعوام. انسحبتُ عند ارتعاش شفتينا، وتركته ليهدأ من ذاكرته. فليهدأ، ولو قليلاً.


استهداف الجيش.. استهداف للوطن
علي رزق


لا يمكن حصر ما حصل في مخيم نهر البارد ومدينة طرابلس ومحيطها بأنه إشكال أمني في شمال لبنان، فالقضية أكبر من ذلك حيث تبين أن المستهدف هو الجيش الوطني اللبناني بشكل خاص ومتعمّد، إضافة الى الأجهزة الأمنية، إذ هم الممثلون للشرعية اللبنانية، مع ما يعنيه ذلك من استهداف مباشر للوطن ككل، من حيث إن الجيش هو حامي كل الوطن وقد أثبت وطنيته بابتعاده عن الحسابات السياسية الداخلية. ومقابل أطراف تعي الوضع الداخلي وتحصره في إطار الاختلاف السياسي البحت، تظهر أطراف لبنانية بحساباتها الداخلية المطيّفة فتتوسل الفتن حيث لا حياة لها ولا موقع سياسياً إلا في اللعب على هذا الوتر. وقُدّر للجيش أن يظهر وطنيته المطلقة والتزامه مبادئه قبل هذه المعمعة السياسية وبعدها. ففي عدوان تموز الهمجي على الشعب اللبناني سقط للجيش شهداء من كل الوطن ومن كل الطوائف. فالجيش درع الوطن وحاميه بكل شرف وشجاعة وبكل ما أوتي من قوة، فها هي إمكانياته البسيطة تواجه الترسانة الصهيونية بفاعلية ونجاح. عندما استُهدف الجيش الوطني من الجسم الغريب عن لبنان، حتى الفصائل الفلسطينية تبرّأت منه وشعر كل مواطن أنه مستهدف وأحس، بغليان في قلبه قد استعر وازداد غضباً مع استمرار المواجهات وسقوط المزيد من الشهداء للجيش.