غسان العزي *
سوف يحفظ التاريخ لتوني بلير الذي يغادر السلطة، مكرهاً على الأرجح، أنه حقق لبلاده من الإنجازات على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي ما خوّله الفوز بالانتخابات التشريعية ثلاث مرات متتالية للمرة الأولى في حياة الحزب العمالي الطويلة. لكن هذا التاريخ سوف يذكره على أنه الزعيم البريطاني الأكثر التحاقاً بالولايات المتحدة في تاريخ الإمبراطورية التي لم تكن تغيب عنها الشمس. فهل حصل بلير على شيء في مقابل ذلك؟ هل تمكّن من ممارسة تأثير ما على واشنطن في بعض الملفات على الأقل؟ هل عمل «التحالف» في الاتجاهين فكان متوازناً؟ أسئلة لا بد منها في لحظة رحيل بلير الذي سيفتقده بوش في السنة الباقية قبل رحيله هو الآخر.
في هذه اللحظة ينبغي تذكّر الجملة الشهيرة التي توجّه بها تشرشل الى الجنرال ديغول وهو يودّعه غداة تحرير باريس من الاحتلال النازي: «في كل مرة سيكون علينا الاختيار ما بين القارة الأوروبية والواسع الكبير سوف نختار هذا الأخير». ربما كان «الأسد العجوز» يفكر في الكومنولث الموروث عن العهد الإمبراطوري لحظة تفوّهه بهذه العبارة، لا يهمّ لأنها بقيت رمزاً للتوجّه الطبيعي لبريطانيا نحو المحيط الأطلسي، وبالتالي الولايات المتحدة لا القارة الأوروبية. بعد عشرة أيام على تفجيرات 11 أيلول 2001 وفي خطابه أمام الكونغرس بمجلسيه توجّه بوش الى بلير الذي كان حاضراً بالقول: «شكراً لحضورك أيها الصديق»، فوقف الحاضرون ليصفّقوا لحظات طويلة. ويقول أحد مساعدي بلير إن هذا المشهد أثّر كثيراً في هذا الأخير الذي بدأ يشعر أنه يعيش قصة حب مع الولايات المتحدة ورئيسها أو على الأقل أنه بدأ يخطو خلف آثار مرغريت تاتشر التي اشتهرت بتحالفها الاستراتيجي والشخصي مع رونالد ريغان.
وطوال سنوات ست حافلة لم يسأم بوش من مديح بلير «صديقنا الأفضل وحليفنا الأقرب». وإذا كانت أسباب بنيوية عديدة، ثقافية وتاريخية واقتصادية وحتى إيديولوجية، تساهم في صياغة هذا التحالف وتمتينه بين البلدين الكبيرين، إلا أن بلير ذهب بعيداً الى درجة أنه أضحى أميركياً أكثر من الأميركيين ثم «بوشياً» أكثر من بوش نفسه بعد 11 سبتمبر عندما قرر احتكار السياسة الخارجية التي طالما أهملها. ويقول المحلل السياسي شارلز غرانت إن «هذا الزواج بين بلير وبوش ليس زواج مصلحة بل زواج حب بين طرفين، والمفارقة أن أحدهما يساري والآخر يميني محافظ». ولكن يبدو، على ما يقول أستاذ العلوم السياسية موريس فرازر «بالنسبة إلى بلير الصلات الإيديولوجية الكبرى بين الأحزاب ليست ذات أهمية، فالأهم هو العلاقات الشخصية بين الزعماء العالميين». وهذا ما أظهرته بصورة لافتة الحرب على العراق.
عشية هذه الحرب تعرض بلير في بلاده لأقسى الانتقادات ودلّت استطلاعات الرأي على أن بريطانييْن من أصل ثلاثة ضد الحرب. وفي 15 شباط 2003 سار مليونا متظاهر في شوارع لندن في تظاهرة هي الأكبر في تاريخ البلد على الإطلاق. تجاهل بلير كل المسيرات التي عمّت شوارع المدن البريطانية الأخرى. وتمرّد عليه حزبه إذ صوت 120 نائباً عمالياً (من أصل 420) ضد الحرب. ولفتت قيادة الأركان الى مخاطر التدخل العسكري في بلد كالعراق. ونصح سفراء بريطانيون كثيرون، كما فعل وزيرهم جاك سترو، بعدم خوض هذه المغامرة. على رغم ذلك أصرّ الرجل على قيادة الحرب بنفسه من 10 داوننغ ستريت.
فقط رجلان كانا قريبين منه وبقيا وفيين له:
ــ دافيد ماننغ المستشار السياسي لبلير، الذي أضحى سفيراً في واشنطن، من أشد المتحمّسين للحلف الأطلسي ولدور الولايات المتحدة كزعيمة لـ«العالم الحر». هذا الخبير بالملف الشرق أوسطي يؤمن بأن الولايات المتحدة التي كانت الحصن الحصين في وجه الهتلرية ثم الستالينية، هي اليوم السد المنيع في وجه «التهديد الإسلامي».
ــ ألستر كامبل المستشار الإعلامي لبلير الذي قاد حملة تبرير الحرب وبثّ المعلومات المزوّرة بين أيلول 2002 وآذار 2003.
في بداية تشرين الثاني 2006 نشر معهد ICM استطلاعاً للرأي دلّ على أن 75 في المئة من البريطانيين يرون أن بوش يشكل تهديداً للسلم العالمي أكثر من أحمدي نجاد وكيم جونغ إيل، على رغم كل الدعايات الإعلامية ضدهما. فقط أسامة بن لادن تقدم على بوش (87 في المئة). في الوقت نفسه دل هذا الاستطلاع على أن 71 في المئة من البريطانيين يعتبرون أن غزو العراق لم يكن مبرراً.
على رغم ذلك أصرّ بلير على أنه «قبل كل شيء ينبغي أن نبقى الحلفاء الأقرب للولايات المتحدة. ولكن علينا المساعدة على بناء جسر بين أوروبا وأميركا. على أوروبا أن تكون شريكة للولايات المتحدة لا خصماً». أطروحة «البريدج» هذه يفتخر بها بلير الذي يتباهى بأنه أدّى هذا الدور منذ تولّيه الحكم، وكان وراء إقناع الرئيس كلينتون بخوض حرب كوسوفو بناء على طلب الأوروبيين.
في الملف النووي الإيراني وعلى رغم الفشل العراقي الذريع التحق بلير بالموقف الأميركي عندما رفض استبعاد الخيار العسكري. وقد دفع وزير خارجيته سترو الثمن إذ فقد حقيبته في حزيران 2006 لأنه أعلن مراراً رفضه النزاع العسكري مع إيران. كذلك خلال العدوان «الإسرائيلي» على لبنان في صيف السنة نفسها تميّز بلير من نظرائه الأوروبيين برفضه المطالبة بوقف فوري لإطلاق النار، تماماً كما فعل بوش. وبعدها في 4 أيلول كتب في مقال نشرته الفورين بوليسي: «المشاعر المعادية للولايات المتحدة لدى بعض الزعماء الأوروبيين جنون مطبق إذا نظرنا الى مصالحنا، على المدى الطويل، في العالم الذي نؤمن به».
فقط في ملف الصراع الفلسطيني ــ الإسرائيلي يمكن ملاحظة بعض التمايز من الولايات المتحدة والتقارب مع الموقف الأوروبي لدى بلير الذي آمن دوماً بالحل القائم على الدولتين. وهو يقول إنه، في حزيران 2003، أقنع بوش بالالتزام بخريطة الطريق المؤدية الى قيام دولة فلسطينية الى جانب اسرائيل قبل أن ينجح في عقد لقاء قمة بين شارون ورئيس الوزراء الفلسطيني محمود عباس قبل تنظيمه مؤتمراً في لندن بحثاً عن حل للصراع. لا تهمّ النتيجة السلبية المعروفة.
في الملفات الأخرى لم يتمكن بلير من ممارسة أي تأثير في حليفه: بروتوكول كيوتو، إعادة بناء أفغانستان، إلغاء الإجراءات الحمائية المنافية لقانون المنظمة العالمية للتجارة ولا سيما الرسوم المفروضة على الحديد والصلب الأوروبي... إلخ، الى درجة أن السفير البريطاني في باريس جون هولمز المقرب من بلير قال له مرة: «قد لا تكون فكرة سيئة أن ننقل الى العلن بعض خلافاتنا مع الأميركيين». وفي 30/11/2006 تحت عنوان «بوش يتجاهل بلير بشكل دائم» قالت BBC News: «عندما يلتقي بوش طوني بلير يستمع إليه بتهذيب ويوهمه أنه فهم عليه واقتنع ولكن ما إن يدير بلير ظهره حتى ينسى بوش كل الوعود التي قدمها لصديقه». ويقول كاندل مايرز، الموظف الكبير والقديم في وزارة الخارجية الأميركية، لبرنامج «بي بي سي» نفسه: «تجاهل بوش بشكل دائم ما كان يقوله له بلير (...) هذه العلاقة كانت دوماً في اتجاه واحد ومن دون أدنى تبادل»، على طريقة الأحادية التي سعى بوش لممارستها على الساحة الدولية.
طوال سبع سنوات اختار بلير «الواسع الكبير»، لكن شباكه كانت تعود فارغة على الدوام. قرر أخيراً الانسحاب من العراق، ومن الحياة السياسية في انتظار أن يكافئه بوش على التبعية بمنصب مدير البنك الدولي مكان صديقه المجبر على الاستقالة بول وولفوفيتز. هذا إذا صدق بوش في الوعد.
* متخصص في العلاقات الدولية