حسين عطوي *
تظهر المعطيات والمؤشرات أن المنطقة دخلت في ما يشبه المرحلة الانتقالية التي تسبق تبلور اللوحة السياسية الجديدة النابعة من خريطة توازن القوى الناتجة من فشل الحرب الأميركية الحاصلة في العراق منذ أربع سنوات، والحرب الإسرائيلية على لبنان في تموز 2006. وبالقدر الذي كانت تسعى فيه الإدارة الأميركية، من وراء احتلال العراق، إلى جعله محطة لإعادة رسم خريطة المنطقة وفق منظور مصالحها، عبر إسقاط الأنظمة الوطنية وتقسيم دول المنطقة إلى كيانات طائفية ومذهبية وعرقية، وضرب المقاومة والقضاء عليها، وبالتالي الإجهاز على انتفاضة الشعب الفلسطيني ومقاومته، كمدخل ضروري لفرض مشروع الشرق الأوسط الجديد، سيقود فشل هذه الخطة الأميركية إلى إنتاج لوحة أو خريطة سياسية معاكسة لرغبات ومصالح أميركا وإسرائيل.
بات من الواضح أن الخريطة الجديدة ليست تلك التي كانت تطمح إليها إدارة الرئيس الأميركي جورج بوش، ولن تكون في الوقت عينه الخريطة التي كانت سائدة قبل احتلال العراق، لأن أموراً كثيرة قد حصلت وطرأت خلال هذه الفترة الزمنية، أنتجت واقعاً جديداً وبيئة استراتيجية مغايرة، سمتها صعود قوة خط المقاومة والممانعة ونفوذه، وإضعاف قوة ونفوذ خط المهادنة والتنازل عن الحقوق والاستقلال الوطني لمصلحة فرض السيطرة الاستعمارية الأميركية الإسرائيلية الغربية.
وتتمثل البيئة الاستراتيجية الجديدة بالعناصر التالية:
1 ــ سيادة خط المقاومة المنتصرة على القوتين الأميركية والإسرائيلية وصعوده، وتحوّل المقاومة إلى قوة ذات هيبة وتأثير كبير في القيادات والأنظمة العربية.
2 ــ صعود قوة سوريا ونفوذها باعتبارها شريكاً في انتصار المقاومة ومتصدية للمشروع الأميركي الصهيوني.
3 ــ بروز إيران كقوة إقليمية متقدمة تشكل ظهيراً مهماً لسوريا والمقاومة العربية للاحتلال.
4 ــ خروج المواطن العربي من حالة الضعف والهزيمة في مواجهة إسرائيل، وسيادة أمل عارم لديه بعد هزيمة الجيش الإسرائيلي في حرب تموز الأخيرة أنه يمكن الانتصار على إسرائيل.
5 ــ اعتراف إسرائيل، قيادةً ورأياً عاماً، بالضعف والعجز بعد هزيمة تموز، وبأنها غير قادرة على تحقيق النصر، ولم تعد مكاناً آمناً وباتت تحتاج إلى حماية أميركية غربية، بعدما كانت تشكّل العصا الغليظة في المنطقة التي يخاف منها العرب، وهو ما أقر به آخر الرعيل القديم من القادة الصهاينة شمعون بيريز عندما قال في شهادته أمام لجنة فينوغراد بأن العالم وقف إلى جانب إسرائيل لأنها كانت ضعيفة. من هنا تبدو الخريطة السياسية الجديدة في المنطقة محكومةً بموازين القوى المتولّدة من هذه البيئة، والتي ستكون فيها كلمة المقاومة ودول الممانعة والصمود هي الأعلى والأقوى، ما يجعل الموقف العربي يتأثر بها. وهذه البيئة الجديدة في المنطقة معززةٌ ببيئة دولية جديدة بعد هزيمة مشروع الهيمنة الأميركي على العالم، وبروز حاجة واشنطن إلى مساعدة الدول الكبرى ودول جوار العراق، وبالأخص إيران وسوريا، لإيجاد مخرج لورطتها في العراق، في وقت فقدت فيه الولايات المتحدة سيطرتها وهيمنتها على حديقتها الخلفية في دول أميركا اللاتينية.
ولذلك القمة العربية وغيرها من اللقاءات والمؤتمرات التي عقدت وستعقد في ظل هذه البيئة وما سيصدر عنها من قرارات سيعكس التوازن والواقع الجديد. وما بدا مقبولاً من قرارات القمة العربية، لأنها لم تسجل تراجعاً أو تدهوراً في الموقف العربي، كان بفعل وهج الانتصار الذي حققته المقاومة وجعل حضور دول الممانعة أقوى ودورها أفعل.
على أن هذا التبدل في خريطة موازين القوى السياسية في غير مصلحة الخطة الأميركية الإسرائيلية سوف يؤدي إلى:
1 ــ جعل أي مفاوضات عربية إسرائيلية مقبلة محكومةً بموازين القوى الجديدة التي تجعل دور سوريا وموقعها فيها أقوى بكثير من مرحلة مدريد واحد، واسرائيل في موقع أضعف، على عكس المفاوضات السابقة التي حصلت في ظل تسيّد أميركا على العالم بعد انهيار الاتحاد السوفياتي السابق.
2 ــ إن الولايات المتحدة الأميركية لن تكون لديها السطوة السابقة وسوف يتراجع تأثيرها وقدرتها على فرض إملاءاتها وشروطها، وخاصة بعد مرحلة انسحابها من العراق مثقلةً بأعباء الهزيمة والفشل في تحقيق أهدافها.
وفي مثل هذه المعطيات ولدت قرارات القمة العربية التي كانت أقرب الى معسكر المقاومة والممانعة، وحالت دون انصياع القمة للإملاءات الأميركية. وهذا الواقع الجديد هو الذي فتح طريق طي صفحة التوتر في العلاقات السورية السعودية، وأعاد صيغ التنسيق المشترك وأحيا ما كان يسمى محوراً سورياً سعودياً مصرياً وأنتج قرار عقد القمة المقبلة في دمشق.
3 ــ إحداث تغيير في شكل المفاوضات ومضمونها، فبدلاً من الرعاية الأميركية المنحازة إلى جانب إسرائيل، سوف تطالب سوريا برعاية دولية تحضر من خلالها روسيا والصين بقوة إلى جانب الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، وبدلاً من تجزئة المسارات سيكون هناك استعداد أكبر لتوحيد المسارات ورفض الحلول الجزئية، وخاصة أن تجربة الاتفاقات المنفردة خدمت إسرائيل على حساب الحقوق العربية. إن مثل هذا الواقع سوف يضع إسرائيل بالضرورة أمام مرحلة جديدة مختلفة كلياً عن كل المراحل الماضية من الصراع والمفاوضات، فإذا كانت ترفض المفاوضات على الأسس المذكورة أعلاه، وهي رفضت قبول المبادرة العربية لأنها تتضمّن التمسك بحق العودة، فإنها في المقابل لن تكون في وضع مريح في ظل بيئة تزداد فيها المقاومة العربية حضوراً وقوةً مستندة الى انتصارات مهمة تحققت في لبنان والعراق وفلسطين، وخلفية قوية متمثلة في سوريا وإيران، وتوازن دولي جديد متعدد الأقطاب.
خلاصة القول أن المنطقة دخلت مرحلة جديدة لم تعد فيها إسرائيل قوة منتصرة صاعدة بل قوة مهزومة ومتراجعة في مقابل خط المقاومة والممانعة الصاعد.
* كاتب لبناني