رياض صوما *
إثر الانتصار السهل الذي حققه جورج بوش الأب في حرب الخليج الثانية، توقّع الجمهوريون في الولايات المتحدة، وتوقّع العالم بأسره أن يحقق بوش الأب فوزاً ساحقاً في الانتخابات الرئاسية التي تلت معركة تحرير الكويت. كانت كل المعطيات لمصلحته. ولكن ما جرى كان مخالفاً لكل التوقعات. فقد فاجأ بيلكلينتون الجميع بفوزه، وصارت عبارته الشهيرة: «إنه الاقتصاد أيها الغبي»، مضرب مثل. صحيح أن الرئيس الأميركي الأسبق عاد وانتقم، بواسطة جورج دبليو، ولكن فرح الأب لم يطل كثيراً. فالنكسات التي أصيبت بها سياسات ابنه ومحافظيه الجدد، قلّلت من ذلك الانتقام. وليس متوقعاً أن تنجح إدارة هذا الأخير، في ما بقي لها من وقت، في تعديل الصورة، على رغم محاولاتها الحثيثة لتحقيق ذلك، عبر ما دعته وزيرة الخارجية الأميركية الآنسة رايس «الديبلوماسية النشطة».
فبعدما بلغت التوترات التي أثارتها تلك السياسات حدّاً أوصل العالم، ولا تزال، الى شفير حرب عالمية جديدة، على حد تعبير النائب البريطاني جورج غالاوي، لم تعد الأشهر المعدودة التي تسبق الانتخابات الرئاسية المقبلة في الولايات المتحدة، كافية لعكس الاتجاه أو حتى التهدئة. وهذا ما باشرته، على ما يبدو، الإدارة الأميركية المعدّلة. ففي الملف الكوري الشمالي، أبدت إدارة بوش بعض التعقّل والاعتدال، وبدأت حواراً مع من كانت تعتبرهم ركناً أساسياً من أركان محور الشر. وفي أوروبا، هناك ما يشير الى أن هذه الإدارة تأخذ على محمل الجد الانزعاج الروسي الشديد من سياساتها المتهوّرة، الذي كان خطاب بوتين في ميونيخ أحد أبرز تجلياته. وستضطر هي أو من سيأتي بعدها، إلى التفاهم مع الروس على سلوكيات مغايرة.
وفي أميركا اللاتينية، قام بوش بناءً على نصيحة معاونيه بعد معاينتهم مدى الخسارة اللاحقة بنفوذ بلدهم في ما كان يُعتبر فناءه الخلفي، بجولة في جنوب القارة الأميركية. وأبدى بوش خلال تلك الجولة «تعاطفه» مع جيرانه الفقراء. أما هنا في المنطقة العربية والشرق الأوسط الكبير، فقد عادت وزيرة خارجية الإدارة، الآنسة رايس شخصياً، وقد أصبحت من أهل المنطقة، لمواصلة هوايتها في إجراء التجارب السياسية علينا. فباشرت «الديبلوماسية النشطة» و«التغيير المتدرّج»، بعد فشل الصدمة والرعب، ثم الاجتياح الديموقراطي، ثم الفوضى البنّاءة،.... فجمعت «قادة المنطقة المعتدلين» ومسؤولي أجهزة استخباراتهم، وصارحتهم بتوجّهاتها. وتستند تلك التوجهات الى الجمع بين الضغط العسكري والضغط بواسطة المجتمع الدولي وإدارة التناقضات المحلية والتفاوض، في الوقت عينه. وهي تأمل من خلال ذلك تجاوز الفشل الذي تسبب فيه الإفراط في الرهان على القوة العسكرية، لفرض الحلول المرغوبة أميركياً وإسرائيلياً. وهذا ما أظهرته التطورات الميدانية في أفغانستان والعراق ولبنان والسودان والصومال.... وهذا ما أعلنه صراحة منذ أسابيع القائد الأعلى للقوات الأميركية في العراق. وتعتمد المقاربة الجديدة للإدارة الأميركية للوضع في المنطقة، على الإسراع في استثمار التصدّعات التي أثارتها التوترات المذهبية في المنطقة، لعزل إيران عبر استمالة القادة العرب وتحديداً «المزاج السنّي» بعيداً منها، سواء من أجل مفاوضتها بعد حصارها سياسياً أو من أجل إيجاد بيئة ملائمة لتوجيه ضربة عسكرية لها.
وفي هذا السياق، أُجيزت المصالحة الفلسطينية في مكة، وعاد الحديث عن خريطة الطريق وعن فتح أفق سياسي للصراع الفلسطيني ــ الإسرائيلي، وجرى تشجيع الحكومة العراقية على عقد «مؤتمر أمن العراق»، ولو بمشاركة إيران وسوريا، من أجل جذب أطراف من المقاومة العراقية الى العملية السياسية، ثم كانت زيارة سولانا لدمشق لرفع مستوى الحوار مع السوريين بعد مرحلة فتور طويلة، وصولاً إلى الترحيب بقرار قمة الرياض وإعادة تحريك المبادرة العربية لاستئناف مفاوضات السلام المجمّدة، وأخيراً زيارة رئيسة مجلس النواب الأميركي لدمشق... وتراهن الإدارة الأميركية على أن هذه المرونة الشكلية ستشجع «القادة العرب المعتدلين» على مساعدتها على تجاوز صعوباتها وتحسين فرص استعادتها ثقة الشعب الأميركي، والحد من حجم الخسارة الانتخابية التي تخشاها. وهي تراهن كذلك على أن تلقى «النسخة الجديدة» من سياستها في العراق والمنطقة تفهّماً أكبر على الصعيدين العالمي والإقليمي. فالإيحاء بالاستعداد للتهدئة من جهة، وإشراك الدول الكبرى الأخرى والدول الإقليمية في الحلول من جهة أخرى، يسهّل ذلك. إضافة الى تقديرها أن إيصالها الصراع السنّي ــ الشيعي في المنطقة الى حدود الانفجار الكارثي، خلال الفترة الأخيرة، وكذلك التوتر الأميركي ــ الإيراني الى حدود الصدام المباشر، قد أوضح للجميع حجم الثمن الذي ستدفعه المنطقة والعالم إذا حصل التصعيد. وهذا ما طرحه تشيني صراحة عندما قال «إن هزيمة قواته في العراق ستؤدي الى انهيار النظام الإقليمي في الشرق الأوسط». ثم كرره بوش بصيغة أخرى، عندما قال رداً على قرار الكونغرس ربط إجازة الموازنة بإقرار جدول زمني للانسحاب من العراق، «إن ذلك سيقود الى كارثة».
وهذا يكشف اتجاه بوش لدعم ديبلوماسية وزيرة خارجيته النشطة المتمثلة في ابتزاز الحلفاء والأخصام بالخطر الذي «يتهدد الجميع» إذا أُجبر على الانسحاب. فهل يرضخ هؤلاء للابتزاز، أم تُستأنف المواجهة؟ إن تصعيد الحزب الديموقراطي لمعارضته، وقرارات القمة العربية، ومسار أزمة احتجاز البحّارة البريطانيين، وغيرها من التطورات في المنطقة، تشير الى عدم استعدادهم لذلك. فماذا سيفعل بوش في ما بقي له من وقت؟ التسويات غير ناضجة، والصدام مع إيران قد يؤدي الى انهيار وضعه السياسي كلياً. لذا قد يحاول تطوير مفاوضات غير معلنة تجنّبه الإحراج، من أجل تهدئة محدودة وتدريجية لأزمات المنطقة، بما يفسح في المجال أمام الجمهوريين خوض معركتهم المقبلة بشروط معقولة.
ولكن الثغرة الكبرى التي ما زال يواجهها، على رغم بدئه الأخذ بنصائح لجنة بيكر ــ هاملتون في ما خص المنطقة، وبداية تقبّله لدور أميركي أكثر واقعية في العالم، هي غياب إطار نظري إجمالي لهذا الدور البديل من ذلك الدور الفاشل الذي طرحه المحافظون الجدد. فقد تهافت ذلك الإطار الذي بالغ في تقدير قوة الولايات المتحدة، وفي الاستخفاف بالقوى العالمية الأخرى، ووصل الى حدود الجنون، عندما طرح بعض غلاتهم إلغاء الأمم المتحدة، واستبدالها بإدارة أميركية مباشرة للعالم. إن المرحلة الانتقالية التي تحتاج إليها الولايات المتحدة للتكيّف مع الوقائع المستجدة قد تطول. وهي تحتاج بالتأكيد الى رؤية أشمل وأعمق من مقترحات ونصائح بيكر ــ هاملتون، وبعض الأفكار المتفرقة للآنسة كوندي والسيدين تشيني وغيتس. لذا قد يكتفي جورج بوش، مع من بقي لديه من محافظين جدد، بالمناورات التكتيكية، لتحسين صورة حزبه قبيل الانتخابات، متجاهلاً ضرورة المراجعة الاستراتيجية التي تستدعي الخروج من أوهام التفرّد في فرض الحلول، ومتناسياً مصالح القوى الدولية والإقليمية الأخرى المعنية بمصير المنطقة والعالم، على قدم المساواة مع الولايات المتحدة. بيد أنه سرعان ما سيكتشف هو وإدارته أن الديبلوماسية النشطة لا تكفي من دون «رؤية مغايرة ونشطة»، لإنقاذه وإنقاذ الولايات المتحدة من تبعات السياسات المتهوّرة التي اتّبعها. وقد تفاجئه هيلاري كلينتون، بما فاجأ به زوجها بيل جورج بوش الأب، ولكنها ستقول له هذه المرة: «إنها السياسة أيها الغبي».
* عضو المجلس الوطني للحزب الشيوعي اللبناني