علي الشامي *
وأخيراً قررت حركة «أمل» تحويل تاريخها المكتوم الى وثيقة تاريخية، وكما في القول الشائع: أن تصل متأخراً افضل من ان لا تصل أبداً. أصبح في متناول المهتمين بالشأن الشيعي القسم الاول** من تاريخ الحركة الذي تبلورت في تفاصيله النهضة الشيعية بمستوياتها كلها وآليات الانتقال من الهامشية والحرمان الى المشاركة الفعلية في قرار الدولة والمصير الوطني. وقد صدر القسم الاول في مجلدين يغطيان احداث ما قبل الولادة ومخاضها ويوثقان الدور التاريخي لمؤسسها الامام موسى الصدر وصولاً الى اختفائه في ليبيا في 31 آب 1978. وكانت اللجنة المكلفة مهمة كتابة تاريخ الحركة قد تألفت منذ خمس سنوات، في 18 شباط 2002. وبقرار من هيئة الرئاسة، اقتصرت على اعضاء من «الحرس القديم» الاكثر معايشة وتفاعلاً مع الاحداث والوقائع، والاقرب الى الوثائق والمواقف ومواقع صنع القرار. وفي شهر آذار من العام الجاري، صدر القسم الأول الذي جهد في توثيق مرحلة التأسيسن وهي المرحلة الأكثر أهمية والتباساً وصعوبة، لا سيما انها ترافقت مع ارهاصات الحرب الاهلية ونمت وسط ويلاتها وتداعياتها والطموحات.
وقد حددت هذه اللجنة مهمتها بالاجابة عن عدد من الاسئلة المحورية التي تمثّل في مجموعها ما رأته كافياً ووافياً للتاريخ المنشود، وهذه الاسئلة كانت وفق الترتيب التالي:
ـــ ما هي ظروف نشأة حركة آمل؟
ـــ كيف ومتى ولدت حركة أمل؟
ـــ ما هو دور مؤسسها في الحياة السياسية اللبنانية والعربية والاسلامية؟
ـــ ما هي أهم مبادئها؟
ـــ ما هو دورها في الحرب الاهلية اللبنانية؟
ـــ كيف أطلقت حركة أمل «عصر المقاومة ضد اسرائيل»؟ وما هي اهم محطاتها النضالية حتى اندحار العدو عام 2000؟ مروراً بالعدوان الاسرائيلي في تموز 2000 وما بعده.
ـــ كيف شاركت حركة امل في الحياة السياسية اللبنانية؟ وما هو دورها في الاحداث السياسية وفي الحكم؟
ـــ كيف ساهمت حركة أمل في الدفاع عن حقوق المحرومين وما هي أهم بصماتها في التنمية والإنماء؟
ويبدو من سياق هذه الاسئلة ان التأريخ المنشود سوف يدور حول «الذات» الحركية اكثر مما يبحث في التاريخ العام الذي اعتملت في احداثه ظروف ولادة هذه «الذات». وبمعنى آخر، فإننا أمام وثيقة تاريخية من نوع خاص، وثيقة ترصد حركة الذات في التاريخ اكثر مما تكشف اثر التاريخ العام في مسار الحركة الخاص. قد يرجع سبب هذه المفارقة الى اهتمام لجنة المؤلفين بضرورة توثيق تاريخ الحركة التي ينتمون اليها منذ تأسيسها، وقد يكون السبب في المنهجية المعتمدة وفريق العمل، حيث الغياب الملحوظ لأصحاب الباع الطويل في التأريخ والتلحيل.
ومهما يكن، فإن بداية العمل المنشور منذ اسبوعين، قد غطت مرحلة التأسيس بالامكانات المتوفرة. وقد شملت هذه البداية، في المجلد الاول، الاصول التاريخية لحركة المحرومين، امل، وهي اصول تمتد من بداية التشيع في بلاد الشام وجبل عامل والدور البارز للعلماء في صوغ الهوية المعتقدية وآليات الدفاع عنها في ظل سلطات جائرة، مروراً بالحقبة العثمانية وما تخللها من عنف وإقصاء ونفي طال العلماء والزعماء والجماعة والممتلكات وحرية العيش والقرار، وصولاً الى ولادة لبنان الكبير ومن ثم جمهورية الاستقلال القائمة على الهيمنة الطائفية وما تفرع عنها من سياسة تعميق للحرمان الاقتصادي والثقافي والانقسام الاجتماعي والوطني. ويخصص هذا المجلد اكثر من ثلاثمائة صفحة للإمام موسى الصدر في مسيرة حياته ومواقفه ومشاريعه وعلاقاته ودوره في قيادة النهضة الشيعية منذ بداية الستينيات حتى عشية الحرب الاهلية.
اما المجلد الثاني فقد بدأ بالحرب الاهلية اللبنانية، بأحداثها المفصلية وموقف الامام موسى الصدر والشيعة منها وفيها، مروراً بالعلاقة مع المقاومة الفلسطينية وسوريا والقوى السياسية اللبنانية والمراجع الروحية والانظمة العربية، وصولاً الى توثيق ولادة الحركة وتحولها من المهرجانات الشعبية الى اطار سياسي اكثر وضوحاً في خطابه وايديولوجيته وتحالفاته ومطالباته وبرنامج عمله السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي...
وفي هذا السياق يمكن القول ان محاولة حركة أمل في وثيقتها التاريخية هذه، قد اوفت ديناً عليها لمؤسسها، بحيث يأتي باكورة عملها بمثابة تعريف وتوثيق شامل لسيرة الامام موسى الصدر، كانت قد بدأتها في سيرة خاصة ثم تبعتها بمسيرته التاريخية التي توجها بتأسيسه أول حركة سياسية في تاريخ الشيعة اللبنانيين ودوره في قيادة الحراك الشيعي الثائر على الهامشية والحرمان وفي تمكين هذا الحراك من الطرق القوي على باب الدولة تمهيداً لتحصيل حقه في شراكة كاملة غير منقوصة في القرار والادارة والموازنة والتعليم، والمقاومة والتحرير والتنمية...
ومع ذلك، وكما في كل محاولة اولى تفتقر الى التجربة والخبرة، وبخاصة في مجال الكتابة التاريخية، فإن ثغراً شابت هذا القسم دون ان تؤثر في ايجابياته الكثيرة التي طالما انتظرها المهتمون بتاريخ الـــــــنهضة الشيعية، وتحديداً تاريخ هذه الحـــــــــــــركة التي سحبت جماهير المحرومين من تحت بساط القوى السياسية الاخرى، مثلما اسست لنسق آخر، عــــــميق الجدوى والفاعلية في مقاومة الاحتلال الاسرائيلي.
ففي الشكل، ادخلت اللجنة نصوصاً ومقالات وتحقيقات قضائية كان بالإمكان ضمها الى الهامش لا إلى المتن او الى ملاحق في خاتمة القسم، بدل ايرادها في النص كجزء من التاريخ. وأهملت تحليل وتوثيق وقائع الحرمان التي كانت وراء الحراك الشيعي ومن أسبابه. ومثله، لم تقدّم الخطوط العامة للمشروع الاسرائيلي في لبنان، في الارض والحياة وصيغة العيش المشترك والهوية العربية، وهي خطوط استشرف الامام الصدر خطورتها وجاهد لتأسيس مقاومة اهلية وسياسة دفاعية لمواجهتها. واذا كانت خطب الامام قد استهدفت توجيه الحراك الشيعي خاصة والوطني عامة، ضد الحرمان والتمييز الطائفي واللامبالاة تجاه الاطماع الاسرائيلية، فإن النص التاريخي ينبغي أن يتضمن الوقائع التي تضفي على هذه الخطب مشروعيتها وصوابيتها. ولم يتعمق النص المنشور في تحليل الغايات الكامنة في قرار اختطاف الامام وإخفائه منذ 1978حتى اليوم، واذ يكتفي بالحدث اليومي والتحقيق القضائي وردود الفعل، فإن احداً لم يعرف كيفية قراءة حركة امل لتغييب إمامها، ولا اظن أن الحركة تجهل الاسباب الحقيقية إلا ان عدم ايرادها في نص تاريخي يمثّل ثغرة منهجية ينبغي تفاديها في الاجزاء القادمة. اما الاصول التاريخية لحركة المحرومين ـــ امل، فقد جاءت مبتورة عن سياقاتها الفعلية التي اسست العمق التاريخي للهوية والانتماء والنهوض السياسي العام.
قد تكون اللجنة تأثرت بمؤلفات احد مستشاريها، الا أن اقتصار دور العلماء على نشر الفكر الإمامي وتأسيس المدارس، لا ينبغي ان يأتي معزولاً عن دور هؤلاء العلماء ومواقفهم تجاه القضايا التي كانت تثقل كاهل الاجتماع الاهلي الشيعي منذ المماليك والعثمانيين والفرنسيين وصولاً الى الدولة اللبنانية ونظامها الطائفي وهويتها الملتبسة. وعليه، فإن تأريخ الحركة لدور العلماء لم يدرج هذا الدور في سياق الممانعة التي التقطها الامام الصدر واستثمر من خلالها انتفاضة ضد الحرمان والطائفية ومقاومة ضد اسرائيل. ولم توف الصفحات المنشورة زعماء جبل عامل والبقاع حقهم في مسعاهم للمشاركة في تقرير مصير المنطقة التي ينتمون اليها. إن الحديث العابر عن دور بعض القادة لا يلغي الحاجة الى تعميق البحث التاريخي والتحليل الموضوعي، حيث تظهر المساهمة الفعلية لهؤلاء القادة في بلورة المسار التاريخي لاجتماع اهلي كان يجاهد لتحصيل حقه المشروع في المشاركة في صنع مصيره. وهذا يعني أن معرفة هذا الدور ضرورة تمهيدية لمعرفة ادوار اللاحقين من الزعماء، لا سيما عندما يتعلق الامر بالموقف من السلطنة العثمانية وأداء الطوائف وسلطة الانتداب، وما رافقها من حروب وتحالفات، انتصارات وهزائم، وكل ما يمكن اعتباره تأسيساً تاريخياً لاجتماع اهلي كان يتحرك، ولا يزال، وسط ضغوط داخلية وخارجية، تفوق امكاناته وطموحاته.
وفي الاجمال، فإن الثغر والملاحظات المذكورة، على اهميتها، لا تقلل من شأن هذا العمل الجريء والشيّق، وخاصة عندما تبادر اليه حركة سياسية اشتهرت بقلّة كتابتها عن نفسها، وتركت لغيرها مهمة الكتابة عنها، بلغة اتهامية غالباً، ولعلها في هذا العمل، تكون قد انزلت عن كاهلها اثقال هذه اللغة الاتهامية، واظهرت مخزون تاريخها، بدون تحليل ومقارنة، بلغة الوثيقة الناطقة بذاتها، والداعية إلى السجال العلمي البعيد عن المواقف المسبقة والاتهامية. اي الوثيقة العارية من «البهارات» التاريخية، الكاشفة عن الحدث في خطاب او بيان او حوار او كل ما يكشف حديث الذات عن ذاتها بدون مواربة او اقنعة.
* باحث وأستاذ جامعي
** الكتاب: حركة أمل، السيرة والمسيرة، منشورات دار بلال في مجلدين ، آذار 2007 ـــ بيروت.