محمد نعمة *
صحيح أن المجتمع الفرنسي لا يستسيغ ظاهرياً وإعلامياً وجود مجموعات ضغط معتقدية أو اقتصادية أو ثقافية تشكل لوبي تأثير على الطريقة الأميركية، لكن خلف الستار تبدو المسألة أكثر تعقيداً وأقل نصاعة. إن ثمة سلسلة من حلقات التأثير في البنية الاجتما ــــــ سياسية الفرنسية فاعلة بقوة، لكن نحن سنكتفي ببعض حلقاتها، ولماماً.
لا نريد التطرق طويلاً إلى منظمة أرباب العمل «الميديف» وتأثيرها الفاعل، ليس حصراً في الدفاع النشط عن مصالحها،لكن أهميتها هنا وبالتحديد هي في قدرتها على نقل الحوار أو التفاعل المجتمعي إلى مربع هواجسها الأيديولوجية ورؤيتها الاجتماعية للأداء السياسي العام المطلوب تحقيقه لها. وأيضاً لا نريد الغوص في حلقة تأثير الحلقة الماسونية على مجمل الخلفية العقائدية والفكرية لمؤسسات الدولة، لكن تكفينا الإشارة إلى أن بين عامي 1807 و 1937، أي في حقبة الجمهورية الثالثة، حكمت فرنسا مجموعة من القادة المرموقين، من بينهم ستة ماسونيين قد تبوأوا الرئاسة، لا بل إن تأثيرهم الروحي قد ترك بصماته عميقة في التوازنات الحالية عبر تبني الروحية الماسونية التي تجسدت في قانون الجمهورية 1901 حول «حرية التجمع والجمعيات»، وقانون 1905 التأسيسي المشهور الذي نظم، حتى الآن، الفصل بين الجمهورية والكنيسة أو الدين بشكل عام. أما تأثير الطائفة البروتستانتية التي لا يتعدى عددها 600 ألف مواطن لا أكثر فلا ينحصر في إيصال رجالات أكفياء إلى المفاصل العليا للدولة، بل أيضاً كمنظرين رياديين في الساحة السياسية وفي الدوائر الضيقة لصنع القرار. إن لائحة هذه القيادة تحتوي على غلاة المنظرين للعلمانية أمثال رئيسي الوزراء السابقين ميشال روكار وليونيل جوسبان. لكن التأثير الأكثر عمقاً وتأصلاً هو الذي أتت به النخبة البروتستانتية للجمهورية والذي تمثل مع أواخر القرن التاسع عشر بالرياح الحداثية في موضوعات السياسة والاجتماع. ونخص بالذكر بدايات انعتاق النساء على يد وجوه نسائية بروتستانتية لامعة أمثال هيرميون أزاكي ــــــ كينيه وجولي فالتين ــــــ فابر التي جسدت المرأة المنعتقة بفضل علمها وثقافتها بوجه امرأة فرنسا الخاضعة آنذاك للكنيسة وتقاليدها. لا بل إنه يمكننا الجزم بأن النخبة البروتستانتية التي مثلت غابراً فقهاء الجمهورية العلمانية والليبرالية قد جسدت في ما بعد قساوسة اليسار الديموقراطي في وجه اليمين الكاثوليكي المحافظ.
إن حلقة تأثير الطائفة اليهودية التي لا يتجاوز عدد أفرادها 800 ألف مواطن، لا تتجلى فقط في قدرتها على دفع بعض أعضائها لتبوّؤ مناصب حساسة وعليا في معارج الدولة. فبالفعل استطاعت أن توصل إلى مركز القرار ثلاثة رؤساء وزراء: ليون بلوم، بيار منديس ــــــ فرنس، ولوران فابيوس، وأيضاً في تثبيت بيار لولوش المقرب من شيراك وساركوزي في الوقت نفسه في موقع حساس. إن هذا النائب الذي هو بمثابة نائب رئيس جمعية الصداقة الفرنسية ــــــ الإسرائيلية وعضو لجنة الشؤون الخارجية في البرلمان، يترأس حالياً لجنة دراسات التسلح والدفاع في الجمعية الوطنية. إن الحضور اليهودي الفاعل في الحراك السياسي الفرنسي يتعدى هذه التمثيلية الظاهرة. فمنذ نهاية الستينيات من القرن الماضي، والطائفة اليهودية تشهد الكثير من التطور والتجذر الثقافي، استناداً إلى أربع دعائم أساسية هي:
ــــــ الولاء والتضامن مع إسرائيل.
ــــــ تفعيل الذاكرة تجاه المحرقة.
ـــــ الالتفاف حول الطقوس الاجتماعية للعقيدة اليهودية.
ــــــ وجود شبكة معقدة ومكثفة من الروابط الثقافية: إصدارات متنوعة كالمجلات، راديو، مراكز حوارية وتثقيفية للطائفة وبرمجة دائمة لحلقات دراسية ولغوية تختص بالعبرية.
بالإضافة إلى ذلك، إن الطائفة اليهودية لديها، ككاثوليكيي فرنسا، مدارسها الدينية الخاصة التي تبدأ من الحضانة إلى الثانوية. واستناداً إلى إحصائيات «الصندوق الاجتماعي اليهودي الموحد» لعام 2003 فإن 251 مؤسسة يهودية متعاقدة مع الدولة تستوعب 52884 تلميذاً، ويضاف إليهم 4000 تلميذ في معاهد معترف بها، لكنها خارج التعاقد الحكومي.
إن التأثير الاجتما ــــــ سياسي للطائفة اليهودية على المجتمع الفرنسي لا نراه مقتصراً فقط على سعة النفوذ الفكري لمشاهيرها في الندوة الفرنسية أمثال كلود ليفي ستروس وريمون ارون و بول نيزان وإدغار موران الذين طبعوا لعقود الحركة الثقافية يساراً ويميناً، لا بل نجده يدخل الحلبة السياسية مع اصطفافية استعراضية. بالفعل إن هذا التأثير حالياً نراه بوضوح في المعترك الانتخابي بحيث إن الالتفاف اليهودي، وخاصة عند «الفلاسفة الجدد» أمثال أندريه غلو كسمان، باسكال بوكنر، وألان فنكلكروت، يبدو ظاهراً للعيان، وفي انحيازية سياسية إيديولوجية سافرة. هؤلاء «الفلاسفة» يضعون الآن ثقلهم الفكري والمعنوي في خدمة المرشح اليميني المحافظ والأطلسي الهوى نيكولا ساركوزي.
أمام حلقات التأثير المختلفة هذه على الحياة السياسية الفرنسية، فإننا لن نُفاجأ بغياب أي تأثير عربي محدد: إن العرب أو المواطنين الفرنسيين من أصول مهاجرة يتراوح عددهم ما بين مليونين وثلاثة ملايين مواطن. إن هذه الجالية التي ما زالت أوضاعها القاسية عرضة للنسيان من النظام العربي الرسمي الذي جل ما يهمه منها هو، أولاً، الحصول على حصرية ولائها ومبايعتها لهذا النظام أو ذاك، وثانياً، احتواء مخاطر تأثرها بالقوى المعارضة المشاغبة على أهل السلطة في موطنها الأصلي، وثالثاً، دفعها للدخول في اصطفافات الحكام العرب المتضاربة، كمثل المنافسة بين السلطات المغربية والجزائرية للسيطرة على المساجد والجمعيات التمثيلية لهذه الجالية. في فرنسا، إن هؤلاء المواطنين يمثلون الفئات الاجتماعية الأكثر عرضة للتمييز وللفقر وللامساواة، ما عدا العشرة بالمئة منهم الذين استطاعوا اجتياز الحواجز الجمة للصعود الاجتماعي والحصول على مرتبة «كادر مهني». إن هذه الطائفة بقيت أسيرة تقطيع تمييزي لسوق العمل، عبر زجها في وظائف عديمة أو قليلة المهارات، سيئة الراتب ومن دون طموح مهني. فبحسب المكتب العالمي للعمل لسنة 2007، هناك في فرنسا أربع من خمس فرص عمل يفضل أن تعطى لطالب عمل قديم على أن تعطى لطالب عمل جديد، وتحديداً إذا كان هذا الأخير من أصول مهاجرة.
إن التمييز العنصري والإثني الذي يصيب هذه الجالية خصوصاً، في مجالات التوظيف في الإدارات العامة والخاصة ليس فقط شائعاً، بل أيضاً هو مثبت كعرف. إن هذا التمييز يصطحبه نوع من التصنيف الإثني للتعليم، من خلال ما يسميه عالم الاجتماع الفرنسي بيار بورديو «الاستراتيجية التمييزية» للتسلق الاجتماعي، حيث تبدو المدرسة أبعد من أن تكون مهداً للمساواة كما يدعي قانون الجمهورية، لا بل أن مع هذه الاستراتيجية يتم تكوين شرخ اجتما ــــــ تعليمي بين الفئات. بالتالي نجد أنفسنا أمام مدرسة، وبمنتسبيها موشومة سلباً كمثال للضعة والرسوب. وبالنتيجة متخرجوها يصيبهم إجمالاً العطالة عن العمل والانحراف ثم السجون. ومدرسة موشومة إيجاباً كمثال للرفعة وللنجاح، وبالتالي إن الوظائف والاستقرار المهني يبقى من نصيب متخرجيها.
إن واقع هذه الجالية المأساوي يتعدى إطاره المدرسي والوظيفي ليصيب مأواها وإطارها العمراني. إن الفرنسيين من أصول عربية يرمزون للضواحي «الخارجة عن القانون»، والدالة على بؤس المصير والهلاك. إنهم يعيشون في غابات من الباطون الخالية من أية حياة متوازنة. أحياؤهم عرضة، منذ عقود، للامبالاة مؤسساتية مزمنة، وتصحر خدماتي دولتي مزرٍِ، وتسرب مدرسي واسع. هنا لا بد من الإشارة إلى أن هذه الجالية هي محرومة إلى الآن حقها القانوني في تأسيس مدرسة واحدة لها، وما المعوقات الإدارية والسياسية أمام افتتاح مدرسة «الكندي» إلا شاهد على هذا التمييز الاعتباطي.
في هذا «الديكور» الضحل والقاسي تترعرع أجيال الاختلاط الحضاري الفرنسي والعربي. وضد هذا الديكور الدال على الغبن وعدم الإنصاف أضرمت شبيبة هذه الضواحي النار في أحيائها نهاية عام 2005، دافعة طاقاتها التدميرية إلى حدودها القصوى. أما رد السلطات، فكان، كما هي العادة، قمعاً وتهرباً ومراوغة بعد «أبلسة» الشبيبة وخلطها مع التطرف والإرهاب والإسلام. نعم لم تزل فرنسا، التي تظهر إلى الآن عجزها عن قراءة حقبة كولونياليتها، غير قادرة على استيعاب مهاجري مستعمراتها السابقة وأبنائهم بكل ما للكلمة من معنى. إنها تهرب من التمعن في ماضيها ألعلائقي عبر تملصها من مأساة أحفاد حماتها السود والسمر.
إننا نكاد نقول بأن فرنسا مجتمعاً ومؤسسات تقف من جهة، والفرنسيين من أصول عربية من جهة أخرى. فمن ناحية، ثمة خلط دائم في المجتمع الفرنسي بين هذه الفئة من الفقراء والأزمات الاجتماعية، ومن ناحية ثانية ثمة مغالاة لدى هذه الفئات في الشعور بالاضطهاد وبكونها الموضوع الأولي للتمييز وللغبن المجتمعيين، ما يولد لديها التماهي بأطفال انتفاضة حجارة فلسطين، ثم تسطيحها استخفافها بالمدلولات و بالسياقات السياسية لعلاقتها المضطربة بالطبقة الحاكمة.
إن الفرنسيين من أصول عربية، الذين قد انقطعت أواصر علاقاتهم مع بلدانهم الأصلية وجرى التخلي عنهم من نظامهم العربي المفتقر لأدنى مسؤولية تجاه مستقبل بنيه، لم يجدوا في الجمهورية حلاً لتهميش وجودهم إلا في الصراخ الانفعالي أحياناً وفي البكم السياسي أحياناً أخرى. وكل ما هو قائم في ما بينهم وبين المجتمع الفرنسي يغلب عليه عموماً الانفعالات والريبة المتبادلة. بالتالي إن كل ما يصدر عن هذه الجالية قد يوضع في جو الاصطفافات الحدية، حيث إن الشحن الإيديولوجي والإعلامي يأخذ أبعاداً هوجاء، معطياً بذلك ديناميكية مهمة للتأثير السلبي والمرادف قصدياً «لصراع الحضارات»، إذ بالتواصل الإيجابي يختفي، والتأثير البنّاء تحل محله الرغبة في القطيعة والقطع.
في النهاية هناك خسائر بالجملة قد طرأت من جراء هذه العلاقات المضطربة في الداخل الفرنسي، من حيث إنها خسائر إنسانية مباشرة تعبر عن ذاتها عبر المأساة العميقة لهذه الفئة من الفرنسيين من أصول عربية. وأيضا خسائر ناتجة من اختلال التوازن بين الموروث الجمهوري الطاغي والمكتسب الثقافي ألتعددي. وأخيراً إنها خسائر طويلة المدى على التوازن المجتمعي برمته نتيجة اختلالات التحكم والسيطرة على المصير من فئات الماضي والحاضر على حساب فئات الحاضر والمستقبل للجمهورية.
* كاتب لبناني مقيم في فرنسا