قاسم عز الدين *
ذلك اليوم، تعب عرب السلطة من أعباء انتصار العبور في عام 73. كانوا قد انقلبوا لتوهم على «حكم الاستبداد»، فولدت الديموقراطية في «الاتحاد الثلاثي» بين ليبيا ومصر وسوريا «ولها أسنان» حسب تعبير أنور السادات. هندس التحولات «الديموقراطية» في المنطقة هنري كسينجر واقتنع العرب بأهمية السلام «للتنمية والانفتاح على العالم». انقسموا بين دعاة السلام بالتسامح و«ثقافة السلام والديموقراطية» وبين دعاة «السلام الشامل والعادل». انقسموا بين من يظن سلام الدول ثرثرة لا تنتهي مع زعماء اسرائيل و«المجتمع الدولي»، وبين من يأمل «فضح نيات اسرائيل المعادية للسلام»، واتفقوا على انتظار الوقت «والانتهاء من المنعطفات الخطرة» من دون أن يغيّروا ما بأنفسهم حتى يتغير الاختلال الهائل في موازين القوى. انساقوا خلف طموحاتهم الهشة، بل انساقوا خلف مصالحهم الضيقة الوضيعة. أهدوا الشعب الفلسطيني هدية مسمومة تعترف بمنظمة التحرير ممثلاً شرعياً وحيداً، ولكن للتخلص من القضية الفلسطينية ومن ترابط قضايا شعوب المنطقة. تفرّغوا بكل جهدهم لخدمة بلادهم و«اللحاق بركاب الأمم المتحضرة»، فانفتحوا على العالم وخصخصوا الدولة ملكية خاصة لهم ولرعاية مصالحهم مع زبائنهم المحليين والأجانب، فطفح العمران وازدهرت الأعمال، وما نحصده اليوم من ازدهار ورفاهية واستقرار اجتماعي وسياسي، هو من ذاك البذار، ولكن لم يثمر كله بعد.
في لبنان، وهو ساحة ومرعى لسلطات «الشرعية الدولية»، وبفضل «مناعة» طبقته السياسية، اكتشفت السلطة السورية «خاصرتها الرخوة»، بل اكتشفت الشرعية الدولية والسلطات العربية الأخرى، شوكة في عيونها. ظنت انها رشّت الملح على تداخل حقوق الشعب الفلسطيني بالحقوق العربية، في مجازر عمان وجرش. اعتقدت أنها علّمت «البرابرة» طاعة الياقات الصفراء ووجه كيسنجر، فإذا بالقضية تنبت يانعة شامخة في أرض الجنوب وفي قلب بيروت. التفّ كل فقراء لبنان حول حق فقراء فلسطين وجعلوا أرض لبنان مرآة مصقولة تظهر «بجاجة» الشرعية الدولية وغطرسة شرعيتها، وتعكس كذلك هشاشة السلطات العربية، بل تعكس الفطرة الإنسانية في تضامن الشعوب ومؤازرة الحقوق. نقل فقراء لبنان الحقوق الى العالم فظن العالمُ لبنانَ قارةً بأكملها، وتلاقى كل من يتحسس رأسه في هذا الكون على صوت الحقوق في لبنان. ونقلت السلطة عيون بقية السلطات وآذانها الى لبنان الساحة، ترعى «احترام القوانين الشرعية». كان فقراء لبنان، كما هم اليوم، يدافعون عن حقوقهم. فالحقوق لا تتجزأ الى نتف من الحقوق السياسية والوطنية والاجتماعية والوطنية، بل تتداخل وتتوسع في الجغرافيا والتاريخ. كانوا، كما هم اليوم، يتطلعون الى بناء مشروع الدولة بديلاً من مزرعة المافيات وتقسيم الحصص والأتاوة بين الطبقة السياسية. وعلى هذا الطموح الخلاق ردّت ميليشيات السلطة بالحرب كما ترد اليوم وما أشبه اليوم بالبارحة.
الدرس الأهم الذي ينبغي استخلاصه من الدمار والقتل هو ان الحركة الوطنية أكملت حلقة مشروع السلطة في نصف الدائرة الأخرى، وهو درس آني متجدّد. فلم تحمل مشروعاً بديلاً لإعادة بناء الدولة، بل حملت مشروعاً مكمّلاً لمشروع ذئاب السلطة. فلم تشهد «غرفة العمليات» أي خطة عسكرية لإنقاذ فقراء تل الزعتر والنبعة أو غيرهم من المتضررين من الحرب والتهجير، لأن طموحاتها السياسية لم تتعدَّ تحسين مواقعها في السلطة الناشئة. وقد أدار أقطاب الحركة الوطنية وقبضايات الأزقة «إذاعاتهم العروبية» في ما سمّوه «الدفاع عن المقاومة»، ولكن أداروا بنجاح أكبر أعمالهم وإعادة توزيع الثروة المحلية الخام وما زالوا الى اليوم بصحة جيدة (بل ممتازة) والحمد لله، وحده كمال جنبلاط أدرك حلقة الفصل فسعى الى توجيه ضربة عسكرية متلازمة بمصالحة جديدة مع داني شمعون لاستكمال نواة دولة فؤاد شهاب، لكن الحركة الوطنية تخلّت عن كمال جنبلاط في منتصف الطريق وأعطت بذلك الضوء الأخضر لتصفيته، بل أيضاً لتصفية أي تطلع لإعادة بناء الدولة واحترام الحقوق. كان من الممكن ان تنتهي الحرب بإصلاح سياسي وموازين قوى اجتماعية عام 76، وفي ذلك الوقت كانت موازين القوى العسكرية تتيح هذا المشروع السياسي ــ يشهد على ذلك ما يعرف باسم «ثغرة بو دعير» في المطاحن وعين الرمانة و«ثغرات» أخرى عديدة في النهر والصالومي. لكن الميليشيات في الطرفين اتفقت على تكديس ثرواتها على أنقاض الخراب وتلاقت مصالحها على قتل الفقراء في كل المناطق والدساكر، فإن لم يكن ذبحاً وتهجيراً، فبمعارك التضحية والفداء.
منذ ذلك الوقت، أدّت السلطة السورية دور مقسِّم الجبنة، فاشترت «استقرار» الطبقة السياسية في السلطة على حساب النهب وتقاسم الثروة العامة وعلى حساب العلاقات المتكافئة بين البلدين وبين الشعبين، كسبت نفوذاً حاسماً مع الطبقة السياسية، لكن على حساب مصالح الفئات الشعبية وعلى حساب حقها في إعادة بناء الدولة. ولم يكن لهذه الإدارة السياسية الرثّة ان تستمر في لبنان كما استمرت في سوريا، نتيجة الخلاف الكبير بين تجربة الحركة الشعبية في البلدين. وقد انتهت عملياً عام 2000 حين نجحت المقاومة في كسر شكيمة الاحتلال الاسرائيلي ودحره. في هذه اللحظة ولد مشروع 13 نيسان عوداً على بدء. فقد انتهت مرحلة التعايش القسري بين السلطة والمقاومة وكان على المقاومة ان تقفز الى الأعلى في مرحلة جديدة لإعادة بناء الدولة أو ان تتراجع الى الأدنى بمستوى السلطة. في تلك اللحظة ظنّت الشرعية الدولية والسلطات العربية (عدا سوريا) ان الانتصار يتيح للمقاومة الانخراط في سياسات الشرعية وفي آليات تقاسم الحصص والأتاوة في السلطة. لكن المارد الشعبي في المقاومة لم يسمح لحزب الله التدنّي الى مستوى السلطة وحمّله مسؤولية سياسية وأخلاقية لا يقدر ان يتخلى عنها بسهولة حتى لو أراد. ولكن لم يرتقِ حزب الله الى مرحلة جديدة. فهو وإن نأى بنفسه عن مشاركة السلطة في القرصنة، إلا انه أدار ظهره، في الوقت نفسه، لحقوق الفئات الاجتماعية في بناء الدولة البديلة من سلطة المافيات، ولا سيما حقها في المشاركة في تقرير سياسات الدولة وشكل الحاكم.
راهن حزب الله على استمرار تجربته الخاصة، وقد استمر عشرين سنة بفصل المسألة الوطنية عن السياسة الاجتماعية وشكل الحكم. ولم يراهن على تجارب حركات المقاومة الأخرى. ظن ان الحقوق الوطنية يمكن ان تعوض الحركة الشعبية حقوقها الاجتماعية والسياسية حتى بعد انتصارها. وظن ان سلطة المافيا يمكن ان تتخلى للحركة الشعبية عن المسألة الوطنية (قرار الحرب والسلم!)، إذا لم تهددها الحركة الشعبية في سلطتها ومصالحها. وهو ما زال يراهن الى اليوم على امكانية التعايش السياسي «بالحوار»، إذا ما تغيرت التناقضات في المنطقة وإذا ما خفّت الضغوط الخارجية على السلطة المسكينة. فلم يتعلم الدرس من 13 نيسان 75 ولا يريد ان يصدق تعطّش السلطة للخراب والدم.
إن الخطاب السياسي للمعارضة يذكّر بخطاب الحركة الوطنية عام 75 على الرغم من المسؤولية السياسية والأخلاقية العالية التي يتمتع بها حزب الله والتيار الوطني الحر. فهو خطاب مشاركة في السلطة يصبّ الماء في طاحونة ميليشياتها وفي شهيّتها الجامحة للحرب والتدمير والفرز الطائفي، ولا تستطيع المعارضة أن تنأى بنفسها عن الانجرار الى هذا الخراب، وهو مشروع يعيد فرز التناقضات الاجتماعية والسياسية على أساس ترابط السياسة الدفاعية والسياسة الخارجية والسياسة الاقتصادية ــ الاجتماعية وشكل الحكم، وعلى أساس حقوق الفئات الاجتماعية وتلاقي مصالحها في هذه السياسات. فإن لم تكن دولة مثل ماليزيا أو سنغافورة، فلتكن دولة مثل مالطا التي تزن مصالحها بتبادل المنفعة والحقوق ولا تزنها بالتسوّل والديون، فالقوى الديموقراطية واليسارية والعلمانية تتحمل مسؤولية فائقة في هذا المسار لتطوير سياسات المعارضة والتكامل معها بل لتفويت الفرصة على ميليشيات السلطة في العودة الى القتل والخراب. وهي لا شك قادرة ان تتحمل هذه المسؤولة إذا أدركت ان النظام في لبنان طائفي نتيجة سياسات السلطة. فسياساتها الدفاعية والخارجية والاقتصادية ــ الاجتماعية هي التي تفضي الى شكل الحكم الطائفي لا العكس. ولكن ليس بنشر الثقافة الديموقراطية يمكن إصلاح النظام بل بنشر ثقافة الحقوق وبمشاركة الفئات الاجتماعية في القرار السياسي، فالدولة لا تُبنى في غرف مغلقة بل في توازن التناقضات الاجتماعية والسياسية واتجاهها نحو الأعلى.
* كاتب لبناني