عبير عثمان *
لأن الصورة بوجهين فلنحذر الإفراط إن في التفاؤل وإن في التشاؤم، ولأن الصورة بوجهين أرى أن نقرأ في الرمادي حتى لو انتهى المقال إلى هذا اللون.
العالم لا يتوقف عن التحول والثابت الوحيد في السياسة هو المتغير، هذه هي الحقيقة الأوضح، ولكن في أي اتجاه يتحرك العقرب اليوم؟
يقودنا نحو هذا السؤال نوع الخطاب المفرط في التبشير بفشل المشروع الأميركي من جهة، وملفاتنا المعلّقة في الانتظار من جهة أخرى. يبدو البعض مبشّراً إلى درجة الإفراط بفشل المشروع الأميركي الشرق أوسطي (وهذا أقصى ما نتمناه)، والمؤشرات إلى ذلك متعددة، ولكن حتى لو كان هذا الاحتمال هو الأرجح بنسبة تسعين في المئة، ففي العشرة في المئة الباقية قد تكمن كوارث. فديك تشيني ما زال هناك حيث تُصنع وصفات الجنون وما زال جورج بوش أفضل متذوّق لتلك الوصفات، وعلى رغم كمّ التفاؤل الهائل المتدفق في الإعلام، أجدني أميل للبحث في إجابة عن هذا السؤال، هل يُحضّر فعلاً لصيف ساخن بقنابل ذكية في المنطقة؟
ما الذي يحدث في المنطقة اليوم؟ نستطيع أن نُجمل المشهد بشكل عام: أميركا تسبح في الوحل العراقي وصور فيتنام تفرض نفسها كل يوم أكثر، إن في الصحافة وإن على لسان الساسة والجنود، ولنا أن نتخيل صعوبة هذه السباحة. ومن قال إن أفغانستان قد هدأت؟ فطالبان تنهض شيئاً فشيئاً وما زالت قادرة على الاستيلاء على مناطق ولم تعد قوات الناتو قادرة على المبادرة، بل أصبحت في موقع الرد حسب التقارير الواردة من أفغانستان. في فلسطين حكومة وحدة وطنية تضم حماس بانتظار فرج ما، بعدما حُلّت خلافات داخلية وصلت حد الاقتتال وقاربت الحرب الأهلية. وتبدو اليوم هوامش المناورة عند فريق التفاوض «حتى الموت» ضيقة جداً. ويجب ألا يجرؤ أحد بسهولة في المدى المنظور على خرق اتفاق مكة المبارك سعودياً وعربياً. وفي لبنان لم تتمكن قوى الأمركة من الانتصار في استكمال حرب بدأتها إسرائيل وأميركا على المقاومة اللبنانية، وما زالت المعارضة اللبنانية ضاغطة وقادرة على السير في خياراتها الوطنية على رغم استماتة الفريق الآخر صاحب الخيارات الأميركية في السير في اتجاه التدويل، لدرجة أنك وبينما تتابع تصريحات وتصرفات فريق السلطة في لبنان تشعر أن هؤلاء يعتقدون فعلاً أن «المجتمع الدولي» صار طوع بنانهم، وربما اعتقدوا أنهم بمجرد رفع مذكرتهم حول المحكمة إلى الأمم المتحدة (ومجاكرة الرئيس بري)، فهذا سيعني أن أحد ممثلي الكبار في مجلس الأمن سينسى أن ينتعل أحد خفّيه وآخر سينسى ربطة عنقه قبل أن يهرع لفرض المحكمة الدولية تحت الفصل السابع. لا بأس، فلهم معاييرهم في اللعبة كما للآخر معاييره.
وفي العراق حرب لا يعرف حقيقتها إلا القتلة و«الله» وتأخذ أسوأ صيغة لحرب، حرب أهلية طائفية مدمرة، لكنها لا تستطيع على رغم بشاعتها أن تغطي على حقيقة وجود مقاومة عراقية ربما سنتعرف بها عن قرب في زمن آخر.
أما في إسرائيل فحكومة ضعيفة مرتبكة لا تتوقف فيها فضائح من تورّطوا في عدوان تموز، ونسبة شعبية رئيسها حسب استطلاعات الرأي مدعاة للخجل، ويعدنا بتنازلات ستفاجئ العرب ربما أهمها أنه يقبل بلقاء القادة العرب «كتنازل»، وبين هذا وذاك نانسي بيلوسي بكل أناقتها في دمشق حملت رسالة سلام من أولمرت إلى سوريا، التي «أفشلت محاولات عزلها حتى الآن»، فسارع مكتبه إلى التنكّر لها. وحسب يديعوت أحرونوت فإن تصريحات بيلوسي لم ترُق أولمرت، ذلك أن إسرائيل لم تغيّر موقفها من سوريا أو من شروط التفاوض معها. بالتأكيد لم تختلق بيلوسي رسالة أولمرتية ولكن المشكلة ربما هي في إعلان مضمون من هذا النوع.
وأما في الخليج العربي فثمة ما أثار استغرابنا عشية القمة العربية في الرياض، شيء ما حدث للسعودية أو في السعودية التي أعادت علاقاتها مع سوريا بعد ابتعاد وصل حد الاصطفاف في محورين متناقضين حسب تصنيفات أميركية إسرائيلية. وتحاول السعودية اليوم أن تبرز كقائد للأمة من خلال مقاربة حلول لأزماتها بعيداً من الرؤية الأميركية. بدا ذلك في التغير الطارئ والمفاجئ في القمة العربية، فضلاً عن أن النيويورك تايمز تحدثت عن إلغاء عاهل المملكة عشاء في البيت الأبيض على شرف الملك عبد الله بن عبد العزيز، وتحدثت الصحافة الأميركية عن خيبة رايس من السعودية بعد القمة العربية.
ولكن ماذا عن سياسة المحاور؟ هل يمكن أن تتراجع بهذه الفجائية بالصدفة؟ أم قرأت السعودية هذه المرة المشهد ككل بطريقة مختلفة ووجدت أنه لا مناص من النزول قبل أن يصل القطار إلى الهاوية؟ ثم هل انتهى القلق الخليجي من إيران؟ ألم يثقبوا رؤوسنا بالحاجة إلى تطمينات إيرانية بعدما اعتقدوا أن إيران تريد أن «تفرس» المنطقة و«تشيعها»، وكثيراً ما طالبوا بهذه التطمينات عبر سوريا حليفة إيران في المحور المتطرف؟ هل قدمت إيران بوادر حسن النية المطلوبة منها خليجياً؟
أعتقد أن اللعبة هنا كلها تقع في المنطقة الرمادية، إذ هي غير مفهومة بالقدر الكافي أو أننا لم نستوعب بعد هذا التحول الخليجي، وسأكون من أسعد الناس إذا أخذ التحول الخليجي منحى الابتعاد فعلياً عن سياسة المحاور لأنه تحديداً المنوط بإسقاطها. في كل الأحوال علينا أن نضع التحوّل السعودي بينما نرتّب المشهد في المنطقة كما هو ولمرحلة، أي إلى أي مدى تستطيع السعودية أن تكمل في هذا الخط إذا كانت أولى البوادر في إلغاء صفقة الأسلحة الأخيرة؟ وإن كانت واشنطن تبدو مضطرة حالياً إلى التسامح مع المواقف السعودية الأخيرة فلأن هذه مرحلة أو جولة من اللعبة الكبيرة، وعليها أن تمر لأن المقبل قد يكون أعظم على الأقل بالنسبة إلى واشنطن. يضاف إلى هذا المشهد الكلي لما يحدث في المنطقة، المشهد في واشنطن نفسها لأننا ما زلنا في سياق البحث في فشل المشروع من عدمه.
الجمهوريون خسروا الانتخابات النصفية بتأثير جزء كبير من هذا المشهد الكلي، وتساقط الصقور مثل أوراق شجرة خريفية، واستقال رامسفيلد واضطر بوش إلى البحث عن بيكر ومن خلاله عن حل للورطة في العراق، وسلسلة فضائح للإدارة، وسقوط الاستراتيجية الجديدة في العراق (باعتبارها أشبه بالحج والناس راجعة)، وقبول الجلوس مع سوريا وإيران للتفاوض حول العراق، وبيلوسي في دمشق، ومشكلة مع الكونغرس، والقتلى كل يوم في تزايد، والحديث المتصاعد عن ضرورة الانسحاب من العراق في عام 2008، وتراجع الحلفاء بطرق مختلفة. على طريقة أحمد الجار الله وصحيفته، أعتقد أن بوش لا ينام جيداً، وكذلك تشيني، ولسنا متأكدين أنه يأكل بشكل جيد وربما يفقد شيئاً من وزنه (هكذا هلكنا أحمد الجار الله وهو يراقب وزن الرئيس بشار الأسد وساعات نومه في وقت اشتداد الأزمة).
على رغم كل هذه المؤشرات التراجعية التي قد تبهرنا بحيث تحجب الرؤية، ثمة أسئلة مهمة كامنة خلف الحدث أولها متعلق بالعراق، فهناك من المفترض أن تعلّق مشنقة المشروع الأميركي كما علّقت مشنقة صدام حسين. المطلوب اليوم من الإدارة الأميركية الحالية الانسحاب من العراق، ولكن إذا ما حدث الانسحاب الأميركي من العراق فهذا له معنى واحد هو ليس الفشل الأميركي في العراق فحسب، بل هو الفشل الأميركي بالمعنى الواسع الأشمل، فشل أميركا كصاحبة مشروع شرق أوسطي. ومن جهة أخرى، ستشكل هذه الحرب العبثية في العراق خطأ استراتيجياً قاتلاً لأميركا، وسيعني انسحاب القوات الأميركية من العراق أن بوش خاض حرباً مكلفة خاسرة استراتيجياً بإهدائه العراق لإيران كمنطقة نفوذ. وهنا تقفز إيران إلى الواجهة وهي تحديداً ما تجعل الصورة بوجهين، وقوتها واستهدافها تحديداً ما يجعلا المشهد رمادياً في إطار استقراء المقبل من الأيام. يدفعنا المشهد المتداخل في المنطقة إلى قراءة الوجهين انطلاقاً من سؤال: هل ضرب إيران فكرة واردة أم مجرد تكهّنات؟
لا يبدو أن أحداً يجرؤ على إثبات احتمال ضرب إيران. البنتاغون نفى على لسان غيتس أي نية لضرب إيران حالياً، ولكن هل سيكون الوضع كذلك؟
نستطيع استبعاد احتمال ضرب إيران لوهلة، فأميركا غير قادرة على سحب أقدامها من الوحل السميك الخانق في العراق فكيف لها أن تجرؤ على الغوص في مكان آخر، بيد أنه لا يمكن أيضاً أن نتجاهل التقارير التي تسرب عن إمكانية توجيه ضربة خاطفة، فأميركا بديهياً لن تقبل إيران قوة عظمى في المنطقة متصالحة مع جوارها الإقليمي ونافذة في العراق إلى هذا الحد، وخاصة إذا ما وعى الخليج العربي جدياً لعبة واشنطن في تحويل الصراع العربي الإسرائيلي إلى صراع عربي إيراني، وهذا ما حاولت رايس وليفني تسويقه أخيراً من خلال طرح معادلة الاعتدال في مقابل التطرف، وبهذا يصبح الخليج المعتدل في مواجهة إيران المتطرفة. تقتضي المصلحة الأميركية ضرب قوة إيران المتصاعدة والمستفيدة الأكبر من تعثّر أميركا في العراق، وكل ما يحتاج إليه تشيني وبوش هو الذريعة. هذا ما يسرّب عن السيناريو «التشيني» الذي يتلخص في أن على إسرائيل أن تقوم في الصيف المقبل بتوجيه ضربة إلى مفاعل بوشهر الإيراني، ما يؤدي بطبيعة الحال إلى رد إيراني سيضطر واشنطن إلى التدخل، وكل ما ستقوم به واشنطن هو ضربة جوية مستمرة لمدة 36 ساعة تستطيع إضعاف إيران وإعادتها 15 سنة إلى الوراء.
اللافت أن تشيني يتحدث عن ذريعة لضرب إيران تبدأ بضربة عسكرية إسرائيلية لإيران من دون ذريعة، وتكون مبرراً لتدخل أميركي للدفاع عن اعتداء إسرائيل على إيران. ربما نقترب من تصديق وجود هذا السيناريو بالنظر إلى ما سُرّب في الغارديان عن أن الإدارة الأميركية نصحت بريطانيا باستعراض قوتها العسكرية أمام إيران في مسألة البحارة المحتجزين، فرفضت بريطانيا ذلك. ولكن هل تجرؤ إسرائيل؟ البعض يرجح أن تكون ساحة استعادة الردع الإسرائيلي المرجحة هي غزة، فيما يرى آخرون أن غزة لا تبدو ساحة مغرية لاستعادة قوة الردع، فأداء إسرائيل في حرب تموز كان «جرصة» وربما تحتاج إلى نصر تدوّي فيه هزيمة خصمها «كجرصة» فهزيمة كالتي منيت بها إسرائيل في لبنان في الصيف الماضي. طرحت أسئلة كبرى في إسرائيل عن الجيش والردع والوجود، وبغض النظر عن تخبّط الحكومة الحالية وعقدة نشر أو عدم نشر اعترافات المتورطين في الحرب، فإن إسرائيل استراتيجياً في حاجة إلى تسجيل هدف مدوٍّ، ولكن هل يستطيعون تجاهل قوة إيران وأن «العلقة مش قليلة» معها، إذ في حرب على إيران لا بد للعالم كله من أن يدرك أن الجغرافيا ستحارب كما هي الحال دائماً في هذه المنطقة، وأن من يهاجم إيران عليه أن يتوقع أن مضيق هرمز شخصياً سيدافع عن إيران، ولن يحتمل أحد وصول سعر برميل النفط إلى 200 دولار مثلاً.
وسط هذا المشهد المرتبك لأصحاب المشروع الشرق أوسطي، يبدو الحلفاء في لبنان ورقة أميركا التي لن تتنازل عنها بسهولة حالياً، ولذلك أعتقد أنها لن تسمح بتمرير تسوية في لبنان بعدما ضاق هامش اللعب في فلسطين، فهل ستستطيع السعودية إطلاق اتفاق مكة اللبناني على طريقة اتفاق مكة الفلسطيني على رغم معارضة واشنطن؟
تبدو المنطقة مفتوحة على كل الاحتمالات ولكن من يستطيع أن يحسم، فيما لو وقعت حرب الصيف المرجح أن تكون حرباً إقليمية، أي نتائج ستحمل؟ ربما ستكون هي نفسها «طلقة الرحمة» على مشروع الشرق الأوسط الأميركي.
* إعلامية سورية