في محبة الطيب لأبي الطيب...
  • جمال محمد إبراهيم - سفير وعضو اتحاد الأدباء السودانيين

    كتب أديب وصديق لي، مقالاً شيقاً في صحيفة سودانايل الإلكترونية، بعنوان: «مع الطيب صالح وأصحابه»، وعن صديقي كنت أعرف إعجابه العميق بكل قبيلة الطيبين، مثل عبد الله الطيب الأديب السوداني الراحل، والأستاذ الطيب صالح، ثم كبيرهم أبي الطيب..
    أصبت، أيها الصديق العزيز، في نظرتك إلى ما كتب الأديب السوداني الكبير الطيب صالح في كتابه: «في صحبة المتنبي ورفاقه»، لما فيه من عميق نظرٍ وصادق محبةٍ لشاعر «ملأ الدنيا وشغل الناس»، على قول ابن رشيق القيرواني، هو المتنبي، أعزّك الله. وإني أحببت المتنبي، ولذلك أعجبت بجلّ شعره، لأني قرأته، مثلما قرأته أنت، عن محبة صادقة وحماسة شديدة، لا عن صدرٍ ضيق ومباغضة جوفاء، ظاهرها تذاكٍ وباطنها حمق. قال الطيب في صفحة 78: «والحق أن العميد رغم علمه وريادته ونظراته الثاقبة، لم يغن كثير غنى في كتابه «مع المتنبي». ذلك لأنه صحب الشاعر على نفور وقلة ود، كما اعترف هو نفسه، فلا عجب أنه لم يظفر منه بطائل، فالمتنبي شاعر إما أن تتحمس له، وإما أن تتركه وشأنه». ولعل الطيب قد أفصح محقاً، لكون الدكتور طه حسين أظهر من البغض وأخفاه في حذر، وسقانا جرعات من كراهية للمتنبي، أقسرنا عليها ونحن أيفاع نعدّ أنفسنا لامتحانات الشهادة السودانية، قبل الدخول إلى الجامعات. أشهد الله أني وجدت عسراً في فهم حجج الدكتور طه حسين، وحينها لم أفطن إلى أن مردّ ذلك هو محبتي لأبي الطيب، وإعجابي الشديد بقوافيه وأوزان شعره وفنياته، قبل استكناه مرامي قصيده ومعانيه. وأقول صادقاً، على رغم مرور السنين الطوال على مراجعتي كتاب طه حسين، إني أذكر كثير معاظلتي حجج الكتاب وجمله الطويلة وتكراريته التي قصد بها إثبات الحجج في ذهن المتلقّي، وقسره قسراً وإجباراً على ابتلاع طعوم الكراهية لشعر الرجل، أكثر من اليسر الذي صادفته في جلّ شعر المتنبي، وأحببته منذ الصبا الباكر، ولم تقعد بي مشقة عن فهمه.
    الذي عنيت من حديثي، هو أن النقد الذي يقرّب العمل الإبداعي الى النفس، لهو النقد الذي يحبّبني بالقراءة والاطلاع وتوسيع المدارك. إني أقرأ كتاب طه حسين «مع المتنبي»، فتجدني ضحية لحجة تستكرهني الرجل، وتبغّض لي شعره، فما نظرت من أثر ذلك في ديوان المتنبي، إلا بعد مررو سنين طوال. أقرأ كتاب الطيب صالح عن المتنبي وصحبه، فأجد الطيب يحثّني على أن أطّلع على شعر الرجل، قديمه قبل آخر نظمه، وهو يقرّب إليّ جمالياته وفنياته، قبل أن يلاحق إخفاقاته وهنّاته. لا أقلّل من شأن كتابة الطيب صالح، إن قلت لك أنها أقرب للعرض المشوّق أو «الريفيو» ـــ على قول الفرنجة ـــ ولست أنا بالخبير المتخصّص بالنقد الأدبي، ولكن يعجبني العرض الذي يحبّب لي العمل الإبداعي. ما حاجتي لنقد أدبي يبغّضه لي؟ لقد كانت لي تجربة في «النقد الودود» ـــ إن قبلت تسميتي ـــ قدمت فيها عرضاً عمومياً لأدباء المهجر من السودانيين غير المعروفين جيداً داخل السودان، مثل الروائي جمال محجوب والروائية ليلى أبو العلا والروائي رؤوف مسعد، ولم أخفِ إعجابي بثلاثتهم، وقلت للذين حسبوني ناقداً وأنا أحدثهم عنهم في منتدى مركز عبد الكريم ميرغني في أم درمان، إني لست بناقد، بل أنا محب لإبداع هؤلاء ومعجب به. ثمة من لم يعجبه قولي، ولكن جلّ الحاضرين في المركز، أبدوا اهتماماً بما قدمت، وأعجبهم عرضي في «النقد الودود».
    ولي تجربة في كتابة مماثلة، أودعتها مقالاً لي نشرته في صحيفة سودانايل الإلكترونية في أكتوبر من عام 2005، عن ديوان محمود درويش الذي صدر في سبتمبر من العام نفسه، «كزهر اللوز أو أبعد..»، ووضعت عنواناً جانبياً: إنه «كلام في المحبة لا النقد»، ولقد أعجب المقال درويش، إذ نشرته صحيفة خرطومية، إبان زيارته الخرطوم منتصف عام 2006. وأنا قصدت بـ«كلام في المحبة لا النقد»، ذلك «النقد الودود» الذي يرغّب ولا ينفّر. لعل التعبير يذكّرك بتعبير طبّي سالب شاع هذه الأيام، وهو تعبير «الموت الرحيم». ليس في المقاربة سخرية، ولكنها مقاربة على أي حال: فما علاقة الموت بالنقد، وهو حياة...؟ لعل ما يقابل «النقد الودود»، هو «النقد الرجيم»، أي ذلك النقد الذي يثير كراهيتك للعمل الإبداعي، بل يزيده بشططٍ ومبالغة، مثلما رصد الطيب صالح لطه حسين إقباله على المتنبي في مكارهة ومباغضة، فيها ما فيها من سبق إصرار وترصّد..! أرجو أن يعذرني محبّو عميد الأديب العربي الراحل طه حسين، وأنا واحد منهم، ولكن قسوة العميد على المتنبي في كتابه القديم عنه، كانت مما أبعدني عن تذوّق شعر الرجل لسنوات، اكتشفت بعد عودتي إليه، أنني ظلمت نفسي.. ولكن لا ألومنّ النفس، قدر ما ألوم كتاب العميد..