رياض صوما *
شكل الانهيار السوفياتي لدى حصوله مفاجأة للشعوب السوفياتية. وشكل مفاجأة موازية للعالم، على رغم أنه جاء تتويجاً لعملية اهتراء بنيوي طويل المدى، وفساد عام على مستوى البيروقراطية السوفياتية، لم يكونا خافيين على الكثيرين، وخاصة المتابعين للشأن السوفياتي. ولم تكن المجتمعات والدول والأحزاب الناسخة للتجربة السوفياتية، غريبة عن الأمراض السوفياتية، وأكثرها ما زال يعانيها. ولكن شاء قانون تفاوت التطور أن يسقط ذلك النموذج في المركز قبل الأطراف. وليس المطروح في هذا المقال مناقشة الأسباب. ولكن هناك شبه إجماع على أنه بغض النظر عن ذلك دفعت الشعوب السوفياتية وروسيا وبقية الدول والقوى الحليفة للسوفيات ثمناً باهظاً لذلك السقوط، مع ما رافق الحدث من أوهام نشأت عفوياً، أو غذّتها أجهزة الدعاية الغربية، حول «الفجر العالمي الجديد الذي انبلج بعد سقوط جدار برلين وانهيار إمبراطورية الشر». هذا الفجر الذي لم تستفد منه سوى الشركات المتعددة الجنسيات والمحافظين الجدد، والصهاينة، من دون نسيان المافيات السوفياتية وعصابات الجريمة المنظمة الذين نهبوا المؤسسات السوفياتية باسم السوق والديموقراطية. وقد مثلت عصابة يلتسين وابنته وصهره وتشوبايص وياكوفليف وغايدار ويفلينسكي وبيريزوفسكي، وغيرهم من عملاء الأطلسي وإسرائيل، قيادتهم السياسية والأمنية، وغطاءهم الإجرامي. ولم يبق سراً لمدة طويلة دور هذا الأخير في تمويل التمرد الشيشاني الذي كان يستهدف توسيع استنزاف روسيا، النازفة أصلاً، وتعميق الشرخ مع مسلمي الاتحاد السوفياتي وروسيا والعالمين العربي والإسلامي، لمصلحة الغرب واسرائيل. وقد قاد كوزيريف السياسة الخارجية تحت عنوان الخضوع الكامل للإملاءات الأطلسية والأميركية تحديداً. وقد أدى ذلك الى تهميش، بل الى إعدام الدور الروسي على الساحة الدولية، ومكّن الولايات المتحدة الأميركية من التفرد الصلف في شؤون العالم، وحتى في الشأن الروسي الخاص. وبالعودة الى تلك الحقبة السوداء من تاريخ روسيا، نلحظ بذهول حدود التدخل الأميركي اليومي في عمل الحكومات الروسية، وحجم الحظر الذي فرض على روسيا في مجال علاقاتها الاقتصادية والسياسية والعسكرية. لقد تعدى في بعض وجوهه، ما كانت تمارسه الإدارات الأميركية المتعاقبة حيال جمهوريات الموز. ولكن بعد عقد من الضياع الكلي، بدأت روسيا تستيقظ. ومع سقوط عصابة يلتسين وتسلم فريق الرئيس بوتين السلطة، انطلقت عملية إعادة بناء الدولة الروسية، واستعادة روسيا دورها كقوة
عظمى حقيقية. فباشر هذا الفريق عمله بتصميم وحزم في مختلف المجالات. على صعيد الأمن وفرض هيبة القانون، تولى تصفية المافيات والحد من الجريمة المنظمة، وقد نجح في ذلك الى حد كبير. وعلى الصعيد العسكري، أعاد تنظيم الجيش وحسم الصراع في الشيشان. وأعاد تنظيم صناعة الأسلحة، وهي مفخرة العلم والتقنية الروسية والسوفياتية، وكانت قد تفوقت، قبل الانهيار، على الصناعات الأميركية الموازية في مجالات عديدة. وعلى صعيد إرساء شرعية السلطة، نظم انتخابات نيابية ورئاسية ديموقراطية، بمعايير مقبولة، لا مقارنةً بالعهد السوفياتي، بل بالمعايير الغربية والعالمية الواقعية. ولا يؤخذ في هذا المجال بادعاءات وسائل الإعلام الغربية التي كانت تمتدح جريمة قصف البرلمان الروسي، وتعتبره خدمة لما تسميه «الديموقراطية»، عندما كانت تنفّذه عصابة يلتسين، وتشن حملة شعواء على السلطة الروسية الحالية، إذا حقــــــــــــقت مع أحد عملاء الاستخبارات الغربية، أو وضعته في السجن. وفي المجال الاقتصادي، أعاد تنظيم الاقتصاد الروسي، وضبط موارد الـــــــــــدولة السائبة، وأعاد بسط سلطة الدولة على القطاعات الاستراتيجية وفي مقدمها النفط والطاقة والمناجم والصناعات الثقيلة.... ما رفع معدلات النمو الى مستويات أعلى مــــــن تلك التي سادت في السنوات الأخيرة من العهد الســــــــــوفياتي. فارتفعت الى حد ستة في المئة، بعدما كانت قد شارفت اثنين في المئة عشية الانهيار الســـــــــــوفياتي، وتدنّت الى تحت الصفر بكثير غداته. ومن التبسيط إعادة ذلك الى ارتفاع أسعار النفط
فقط. وعلى صعيد السياسة الخارجية، فقد نجح كل من رئيس مجلس الأمن القومي الحالي إيفانوف خلال تولّيه سابقاً مسؤولية وزارة الخارجية، ثم وزير الخارجية الحالي لافروف، في إحياء الدور الروسي عالمياً بما يقارب ما كان عليه الأمر أيام الاتحاد السوفياتي. لقد استفاد بوتين وفريقه بالتأكيد، من توطّد مواقع قوى عالمية أخرى مناهضة للهيمنة الأميركية، أو معارضة لسياسات بوش وإدارته، في أميركا اللاتينية وآسيا وأوروبا والشرق الأوسط الكبير، وكذلك من تعثّر ما دعته هذه الإدارة: «الحرب على الإرهاب»، على الساحتين العربية والإسلامية، من أفغانستان الى الصومال، مروراً بالعراق وفلسطين ولبنان. ولا شك في أن القيادة الروسية تعي ذلك تماماً، وتعزز مبادراتها انطلاقاً منه. وهذا ما يفسر استمرار تقاربها مع القوى المتضررة من نهج المحافظين الجدد أو المصطدمة به، من فنزويللا والبرازيل وكوبا، الى الصين وكوريا الشمالية، وصولاً الى إيران وسوريا وفلسطين. ويفسر أيضاً مضمون خطاب بوتين في ميونيخ في ألمانيا، الذي انتقد فيه هذا النهج بصورة رسمية صريحة. وكان يعرف أنه سيلقى تعاطفاً عالمياً واسعاً، حتى داخل الولايات المتحدة، على رغم انزعاج إدارة بوش وبعض المعجبين بها. هذا الانزعاج الذي يترجم بتصاعد الهجوم على بوتين من قبل بعض وسائل الإعلام المرتبطة بها، وبعض «المفكرين» الذين لا يتذكرون الديموقراطية إلا عندما تقرر الدوائر الأطلسية شن حملة على من يعارض ممارساتها «الديموقراطية». ولكن الواقعية تقتضي
عدم مقارنة مستوى التعارض الروسي الأميركي الراهن وحدّته، بحقبة الحرب الباردة.
لا يعود الأمر الى تراجع في العدوانية الأميركية أو في ميلها الى استخدام القوة العسكرية لحل المشاكل الدولية. بل على العكس من ذلك، ما زالت الولايات المتحدة الدولة العظمى الوحيدة تقريباً، التي تهدد وتمارس الحروب الاستباقية، ولا تتردد في اللجوء الى القوة المفرطة، للرد على أي تحدٍّ. ولن نكرر هنا ما يعرفه الجميع عن شركات السلاح التي تدفع في هذا الاتجاه. ولا يعود كذلك الى ضعف عسكري روسي يتوهمه البعض، أو يرغب فيه البعض الآخر. فروسيا ما زالت متعادلة نووياً مع الأميركيين. وعادت مبيعاتها من الأسلحة التقليدية العالية التقنية، لتقارب المبيعات الأميركية. ويتوقع كثير من الخبراء عودة التفوق الروسي عالمياً، في رقم المبيعات في هذا المجال، كما كان في أواخر الحرب الباردة. وذلك بعد الأداء الرائع للمقاومة الإسلامية خلال حرب تموز. هذا الأداء الذي أظهر القدرات الحقيقية للسلاح الروسي، وشكل إنجازاً عسكرياً لافتاً بكل معنى الكلمة، فخذل الذين شككوا سابقاً في فاعلية السلاح الروسي. الحقيقة أن روسيا العائدة الى المسرح الدولي لا تعامل الأميركيين بالمثل، أي استغلال صعوباتهم لإلحاق هزيمة كاملة بهم وإذلالهم، كما فعلوا هم مع السوفيات خلال حرب أفغانستان وبعدها. والمسألة ليست بسبب عجزها عن ذلك، كما يتوهم بعض المستلبين بالقدرات الأميركية والاسرائيلية. فالمفكر الفرنسي إيمانويال تود الذي يستحق هذا اللقب، رأى منذ عقد ونيف، وقبل اتضاح المأزق الأميركي، أن الانتشار الأميركي الهجومي في المدى السوفياتي السابق، وفي المديين العربي والإسلامي، الذي يدغدغ جنون العظمة لدى الإدارة الأميركية، ليس سوى فخ كبير. وأن الجنود الأميركيين هناك ليسوا في حقيقة الأمر أكثر من رهائن لدى أخصام الولايات المتحدة وأعدائها. وبالتالي فليس صعباً على بوتين، بالتنسيق مع إيران، أو مباشرة، تحويل هذا الانتشار الى فخ قاتل للأميركيين المنتشرين في أكثر من عشرين دولة من دول المنطقة. ولكن القيادة الروسية وإيران لا يفعلان ذلك، حتى الآن على الأقل، وذلك ليس خوفاً على الأرجح، بل هي سياسة «خطوتين الى الأمام وخطوة الى الوراء» التي يتبعها الإيرانيون والروس في مختلف الملفات، بدءاً من الملف النووي الإيراني، الى ملف المحكمة الدولية في لبنان.
وهذه السياسة لا تعكس خوفاً من مواجهة الأميركيين الذين باتوا أقل قدرة على إخافة أخصامهم، بقدر ما تعكس حساً كبيراً بالمسؤولية، إذ إن الطرفين يحاولان مساعدة الأميركيين على تقبّل مبدأ معالجة الخلافات بالحوار واحترام مبدأ توازن المصالح. ومن مصلحة العالم وأبناء المنطقة، بمن فيهم عرب بوش، أن ينجح الروس والإيرانيون في ذلك.
* عضو المجلس الوطني للحزب الشيوعي اللبناني