حسن جابر *
قد يدهش المرء لدى متابعته مشهد الاصطفاف الدولي عند كل مضيق أو معبر استراتيجي وقرب آبار النفط الظاهر منها والمستتر (دارفور) وفي مناجم الحديد والفحم والفوسفات، ويتساءل عن الدوافع التي تحمل اصحاب القرار على استدعاء هذه الفسيفساء الاجنبية لحماية الثروة الوطنية، وغالباً، السلطة المطلقة لهؤلاء الحكام، وهي ظاهرة قليلاً ما نعثر على نظائر لها في المجتمعات السياسية الاخرى. وهنا يستحكم السؤال، هل الاستدعاء وليد ضعف في بنية الشخصية العربية؟ ام خوف منها جراء اجراءات القمع والتهميش والنفي؟
قديماً، وفي العصور العباسية المتعاقبة، سكن العربي خوف عميق من اخيه، فاستبدله بالفارسي والتركي ليكون بديلاً عن العنصر العربي، لكنه وبدلاً من إحلال السكينة والاستقرار في الحياة السياسية العامة، كان الأمر يجري خلاف ما يشتهي السلطان، اذ سرعان ما ينتقل النفوذ الى من توهم انهم ضعاف ويقع الحاكم في قبضة العسكر المستعار، ويضحي مجرد واجهة مشوهة يتم استبدالها لحظة شعور القوى المستدعاة بأنها مهددة، هذا ما حصل في العصرين العباسيين الأولين، وتفاقم مع البويهيين في الثالث وتأزم مع السلاجقة في العصر الرابع.
ومع استفحال شهوة السلطة لدى السلاجقة عمّ الاقتتال كل ارجاء الخلافة، الأمر الذي سمح بوجود مناخات السقوط المدوي للمنطقة بيد الفرنجة (الصليبيين) على حد تعبير المؤرخ السوري المعاصر سهيل زكّار. لقد استدعى تعصب السلاجقة وتخلفهم الارضية لسقوط المنطقة برمّتها أمام الاوروبيين ودون مقاومة تذكر، وخضعت المنطقة لاحتلال طويل ناهز قرنين من الزمان، وسريعاً تمّ التأقلم مع المناخات الجديدة، وشرع الحكام المحليون الخارجون عن الحكم الصليبي في استدعاء أمراء الفرنجة لحماية مواقعهم ضد خصومهم العرب المحليين، مثلما حصل مع أمير دمشق.
والصورة نفسها والمشهد عينه نلحظهما في التجربة الفاطمية التي شاء خلفاؤها استبدال المماليك (أسرى الفتوحات) بالعناصر العربية والاسلامية المحلية، الامر الذي مهد لاحقاً الى وقوع الخليفة في أسر العسكر المستعار، وحوّل الموقع السياسي الاول الى لعبة مشوّقة يأنس لها كل من تسوّل له نفسه تسنّم مواقع النفوذ والقوة، الى أن تلاشت الهيبة وخارت القوى وانتقل النفوذ الى الايوبيين فالمماليك.
وبينما كانت المنطقة في المشرق العربي غارقة في الفوضى العارمة في ظل الاحتلال الصليبي والاحتراب الداخلي الايوبي ـــ الايوبي خرج من رحم السلاجقة في بلاد الري ومناطق ما وراء النهر، اي آسيا الوسطى اليوم، قائد مغامر (الخوارزمشاه) يتصف بكل شيء الا الكرامة، وما فتئ يستفز التتر باللصوصية ونقض المعاهدات الى أن أخرج المارد المغولي من قمقمه واندفع الاخير مستبيحاً المدن والحواضر في مشهد مأساوي قلما عاينت البشرية مثيلاً له، وبدلاً من لملمة عناصر القوة لجبه هذا المارد المنفلت، بادر الخليفة العباسي الى تحريضه على الخوارزمشاه السلطان الطائش، وهكذا اندفع المغول في كل اتجاه يدمرون ويقتلون ويستبيحون كل المحرمات، إلى أن تحوّلت الخلافة المترامية الاطراف الى جثة هامدة ينهشها ذئاب المغول بدون اي مقاومة تذكر.
في القرون الثلاثة الماضية، أثبت الحكام العرب أصالتهم في حب استدعاء الاجنبي، ويكفي المهتم بتاريخ المنطقة استعراض علاقة حكام المشيخات الخليجية ونجد واليمن بالبرتغاليين والانكليز ليتحقق من تجذّر النزعة الاستدعائية العربية ازاء لعبة الصراع الداخلي على السلطة.
والمشهد نفسه نراه في المغرب العربي عندما كان يضطر امراء المغرب والجزائر الى استدعاء الفرنسي لتثبيت نفوذهم، وكأنّ الاجنبي لا همّ له سوى خدمة المصالح الضيقة لهؤلاء الأمراء القاصرين.
في الربع الأخير من القرن العشرين، أنعش الحكام العرب الذاكرة السوداء عينها، فبدلاً من أخذ المبادرة لحماية انفسهم بقواهم الذاتية، عادوا الى سيرة اجدادهم الاولى، وتكثفت طلبات الاستعانة بالاجنبي فامتلأ الخليج بالقواعد العسكرية الغربية وفاضت البقعة الصغيرة من بحر العرب الى ميناء الفاو بالقطع البحرية الاميركية بحيث ارق هدير المحركات استقرار الاسماك الوادعة في تلك المنطقة المستباحة!.
والنزعة الاستدعائية في لبنان عريقة عراقة الامارة اللبنانية، فمنذ امارة فخر الدين مروراً بالشهابيين والأحداث التي سبقت القائمقاميتين وتطاولت الى عهد المتصرفية وما تلاها عقب انتهاء الحرب العالمية الاولى ومجيء المارينز في عام 1958 والهجمة المرعبة التي ترافقت مع الاجتياح الاسرائيلي سنة 1982، وصولاً الى الصخب الحاصل اليوم، ولا ينبغي أن ننسى الخطيئة الاستراتيجية التي حاك خيوطها بعض حكام الحجاز اثناء الحرب العالمية الاولى والتي توجت بالثورة العربية الكبرى المدعومة بالنخب العربية التي استجمّت في باريس سنة 1913 على وقع طبول الحرب، إلى آخر ما تفيض به ذاكرتنا التاريخية «المجيدة».
راهناً، تطالعنا أقلام من نسغ تلك الطبيعة الاصيلة لدى «الشهامة» العربية التي ما فتئت تستدعي تركيا المعاصرة للقيام بدور في الساحة العربية، بحجة عجز العرب عن إحداث توازن استراتيجي مع ايران، وهو المنطق عينه الذي حكم الخطاب الرسمي قبيل استجارتهم بالعم «سام» في مطلع الثمانينيات من القرن الماضي.
النقطة المضيئة الوحيدة التي تسجل لمصلحة هذا العقل المأزوم والمفلس، انه الى الآن لم يجاهر باستدعاء الاسرائيليين لحماية بعض مواقع السطلة ازاء تهديد مواقع شقيقة اخرى، خلافاً لما حصل عقب الاحتلال الصليبي قبل ثمانمئة عام.
ما اوردناه، هو غيض من فيض الوقائع التي لا تحصى، والتي وضعت العرب على امتداد الف وثلاثمئة سنة خارج السلطة تماماً، فالتاريخ لا يحدثنا عن حكم عربي طيلة هذه المدة المديدة، بل عن حكم غير عربي (إسلامي) كانت آثاره ونتائجه مدمرة، واللافت، أن المتصدين للشأنين التاريخي والسياسي من مثقفي الأمة لم تستوقفهم هذه الحقيقة الصارخة، وربما لم تحرك فيهم عرقاً، ولذلك لا يشعرون بالخجل لدى كلامهم على ضرورة قيام تركيا بدور فعال في الساحة الاقليمية، بالرغم من مواقفهم الداعية الى عدم تدخل الغير في القضايا العربية!
* باحث واستاذ جامعي