حبيب فياض
إن لم يكن لبنان قد قطع شوطاً طويلاً على طريق الفتنة، فهو، على الأقل، بات فعلياً في مراحلها الأولى. ذلك أن الفتنة على ضروب ومراحل، تتعدى حصرية الشكل والمضمون إلى أشكال ومضامين شتى يختزنها المشهد اللبناني وفق حركة متعاقبة، رتيبة أحياناً ومثيرة أحياناً أخرى، بدءاً من الانقسام السياسي المشهود، مروراً بأدوات المعركة المفتوحة، في خضم هذا الانقسام، على جبهات عديدة، وصولاً إلى الصدام الشوارعي الدامي، بصيغتيه المضمرة والبارزة على حدٍ سواء.
وإن كان لبنان لا يزال في المراحل الأولى من الفتنة من دون التوغّل في عمقها وملامسة صميمها، أو بالأحرى، في فتنة متقطّعة غير متّصلة، فإن خطف المواطنيْن قبلان وغندور وقتلهما يدفعان تلقائياً نحو تصاعدها وتواصلها، ما لم يكن هناك جهود استثنائية للجمها ومن ثم الخروج منها. إذ فعل القتل هذا فتنوي بامتياز، وليس خطوة قبل الفتنة أو على ضفافها، بل هو في إطارها ومن عنديّاتها، بحيث إن ما يلي ذلك ــــــ إذا ما قدّر دوام هذا السياق واستمراره ــــــ لن يكون سوى الفتنة بأشكال أشدّ فتكاً وأكثر انتشاراً.
وإذ سارعت القيادات السياسية إلى قطع الطريق على تداعيات هذه الحادثة عبر التهدئة وعدم التسييس، فذلك، على ما هو بادٍ، ليس من قبيل منع الدخول في الفتنة قبل حصولها بمقدار ما هو عمل على الخروج منها بعدما باتت فعلاً مشهوداً، وبعدما بات مسار الأحداث يتّجه نحو الانفلات وعدم السيطرة. وعلى الأرجح، أن في الأمر نوعاً من الهروب والتنصّل من الأسوأ الذي قد يلي ويحضر انطلاقاً من الفتنة وتتويجاً لها. هذا الأسوأ ــــــ الهاجس الذي جرّبه اللبنانيون مدى 15 سنة من دون جدوى والذي كان مسبوقاً بحوادث متعاقبة وفتن صغيرة متحركة.
ليست المسافة بين الفتنة والحرب الأهلية سوى كتلك التي تفصل بين الشيء على ما هو عليه في لحظته، وحاله التي من الممكن أن يكون عليها لاحقاً. من هنا، كلّ فعل فتنويّ في لبنان يراكم لحرب مرتقبة ما زالت تفتقر إلى بعض شروط قيامها وحصولها. اليوم في لبنان، ثمة فتنة تمضي حبواً، ولم يعد أمام القيّمين، قبل أن يشتدّ عودها، سوى العمل على وأدها عبر الذهاب نحو التسوية والعودة إلى منطق الشراكة الوطنية والمصالحة، وفي غير هذه الحال لا يمكن إلّا توقّع الأسوأ. إذ كما أن الفتنة قد تكون مقدمةً لحرب أو بديلاً منها، كذلك يمكن أن تكون منطلقاً للاعتبار والتبصّر والتفاهم وصولاً إلى الحل.
هذه الحادثة من المفترض أن تدفع نحو تجاوز ما هو سياسي ــــــ إشكالي في الراهن اللبناني، على وجاهته وأهميته، إلى مصاف ما هو وطني ــ مصيري، إذ رغم فداحة ما شهده لبنان خلال العامين الماضيين، تشي المعطيات الراهنة بانتقال خطير قد يضع البلاد برمّتها على صفيح هو الأكثر سخونة. وفي ظل تشاؤمية المشهد وضبابية ما تحمله الأيام المقبلة، لا مناص من السؤال الذي يراود الجميع: ماذا لو تكرّرت هذه الحادثة في غير منطقة وفي أكثر من وسط... ألن نكون حينها أمام لبنان العراقي؟
لا شك في أن ثمة إرادة وطنية جامعة تعمل على تدارك تداعيات ما هو حاصل بنحو يدفع إلى الاعتقاد بتوافر نيّة شبه جماعية لمواجهة الفتنة. غير أن المطلوب، بالإضافة إلى ذلك، أمران: العمل على تغيير المناخ السياسي الذي يشكّل حاضناً لانتشار الفتنة، والتحرّر من المؤثرات الخارجية الداعمة لمنطق الفتنة خياراً استراتيجياً في أكثر من مكان في المنطقة... كل ذلك مطلوب لأن النيّات لوحدها لا تكفي للقضاء على الفتن.