ناصيف قزّي *
في ذاكرتنا الموشومة أسماء وصور وأرقام... وتواريخ عاصية على النسيان.
في ذاكرتنا الموشومة حكايات مثقلة بالأوجاع والأحزان... وسيل من دموع ودماء.
في ذاكرتنا الموشومة تهجير وهجرة... وجماعات... وتبدّد واندثار.
في ذاكرتنا الموشومة أحداث قد لا تجد لها مثيلاً في كتب البدايات والنهايات، ولا في ملاحم الإغريق وأساطيرهم... أحداث قد تعتبرها الأجيال يوماً، وبعد رحيل الشاهد، من نسج الخيال.
إنها الذكرى الثانية والعشرون لتهجير قرى إقليم الخروب وشرقي صيدا... التهجير الذي حدث فجر الثامن والعشرين من نيسان عام 1985، والذي انتهت به «حرب الجبل»... الحرب ــ النكبة، تلك التي اندلعت قبل سنتين، في مناطق بحمدون وعاليه والشوفين وإقليم الخروب وشرقي صيدا وصولاً الى أطراف جزين... الحرب التي لم يسلم من شرِّها أيٌّ من أبناء الجبل، والتي انتهت بتهجير شامل لمسيحيي تلك النواحي... اللَّهمَّ، باستثناء قلَّة قليلة منهم، مكثت في جيوب محميَّة، من دير القمر، مدينة الحصار، الى بلدة الرميلة، ملفى الشيوعيّين آنذاك... فاكتمل بذلك تقسيم لبنان الى مناطق ذات غالبيَّة طائفيَّة، ظلَّ نظام الحكم فيها ميليشياوياً، حتى كانت «وثيقة الوفاق الوطني» في الطائف...! وما أدراك ما الطائف، وما أوقعنا به دستور الطائف، ولا يزال، من وصايات وانتكاسات واجتهادات والتباسات.
أجل، إنها الذكرى الثانية والعشرون لآخر تهجير جماعي... ومهجّرو الجبل ما زالوا، في معظمهم، مهجَّرين، بالروح قبل الجسد... وأبناء المهجّرين في حالة اغتراب... وعودة الوطن الى قلوبهم، تسمية، بات يلزمها مضمون ووحدة حياة...! وعلى الرغم من مطالبتنا المستمرة بضرورة إحقاق الحقّ وإقفال ملف العودة، فالقضيَّة ما زالت عالقة بين روايات الوعد بالمصالحات وتوفير المال، والتوقيت السياسي لإتمام ذلك. وما أدراك ما كان لمصائب التهجير عند بعض السياسيّين المارقين من فوائدَ... سياسيّي الزمن الهزيل، الذين استجدوا نعمة البيك، واستغلوا القضيَّة الى أبعد الحدود... بحيث حوّلوا وزارة المهجَّرين، تارة الى دائرة للشؤون الاجتماعيَّة، وطوراً الى قسم للتنظيم المدني، وغالباً الى مكتب انتخابي يرعى شؤون الأزلام والمحاسيب... وقمة العجب أن يتحول هؤلاء اليوم، الى منظِّرين في الإصلاح، ضمن جوقة الأكثريَّة التي عبثت بمفاهيم الحوار والشراكة والوحدة الوطنيَّة والأصول الدستوريَّة والأعراف... وبعثرت كلَّ ما من شأنه أن يجمع اللبنانيّين بعد أزمة القطيعة التي فرضتها عليهم احتلالات ووصايات.
إنها الذكرى الثانية والعشرون لتهجير قرى شرقي صيدا وإقليم الخروب... وحالة القرف تعمّ البلاد، وتغمر النفوس أجواء من عدم الاستقرار... والخوف من عودة التنّين، يسربل الناس ويقعدهم عن الحراك.
وشاءت الصدف، هذه السنة، أن يسقط زياد غندور وزياد قبلان، ضحيتين بريئتين، عند تلة جدرا... التلة عينها التي سقط فوقها منذ نيف وعقدين عدد من الأبرياء. وما أشبه اليوم بالأمس... جريمة فظيعة في وضح النهار كادت تدخلنا في متاهات الأيام العجاف والانقسامات الحادّة، لو لم يكن التعقل سيد الموقف، فيخنق الفتنة في المهد.
وهل في مقدورنا ألّا نسجِّل الموقف المتعقّل لرئيس اللقاء الديموقراطي، الذي نأمل منه أن يعود الى أصالته التاريخية التي عرف بها الموحدون الدروز؟
ولكن، أليس ثمة «تقصير مزمن في الحكومة والقضاء»... تقصيرٌ «يشجِّع على الجريمة»؟
سؤال يجول في خواطر الناس، وقد طرحه العماد ميشال عون ليحمِّل مسؤولية الأحداث الأخيرة «للأجهزة الحكوميَّة ككل»، وليرى أن «أحسن ما يقوم به الرئيس السنيورة، إذا أراد حل الأزمة، هو أن يستقيل، لكي تتألف حكومة جديدة، أو إجراء انتخابات نيابيَّة مبكرة»... وأنه «خلافاً لهذين الحلَّين، لا أعتقد أنَّ هناك حلاً ثالثاً».
فالمطلوب إذاً هو الاستقالة... يا دولة الرئيس...!؟
يا دولة الرئيس، يا أصحاب المعالي، يا أصحاب السعادة... الحكم مسؤوليَّة لا ملكيَّة... والحكومة ليست الدولة، بل هي إدارة عابرة للشأن العام. فكفى الناس موتاً ويأساً وبؤساً وفقراً وقهراً وتهجيراً.
أين إجراءاتكم الأمنيَّة؟ وهل تريدوننا أن نصدق بأن إدارتكم للملفات الأساسيَّة، من أمنية وقضائيَّة واقتصاديَّة، ناجحة وفعالة، وقد أثبتّم أنكم أعجز من أن تطبقوا قانون السير على إشارات الداون تاون؟ فلا حكومتكم تطمئن، ولا سياساستكم، ولا ذهنيتكم. اكشفوا الجريمة... اكشفوا الجرائم... أعلنوا الحقيقة... أقيموا العدلَ... كي يبقى لكم بعض صدقية... وكي يبقى أحدٌ في لبنان.
المطلوب هو الاستقالة... يا دولة الرئيس...!؟ كفانا مواعظ... كفانا بكاءً... كفانا دماء.
ها هو التنين يمزق من جديد قشرة الأرض تحت أقدامنا... وأنتم منشغلون في دحض خطاب المعارضة حول المشاركة، والتبجّح بما لا تملكون. فإذا كانت المشكلة في المعارضة فما عليكم إلّا أن تأتوا بها الى الحكم... حمّلوها المسؤوليَّة الى جانبكم... وتعالوا معاً الى كلمة سواء...!؟
لقد بات الانكشاف الأمني خطيراً... ومصلحة لبنان تقضي بأن تستقيل يا دولة الرئيس، بغية الشروع في إعادة ترسيخ تعاقد اجتماعي ــ سياسي متوازن وسليم، يشترك فيه الجميع من دون استثناء.
هكذا يتصرف الكبار في أزمنة المحن... وهل هناك أهم من السلم الأهلي في مسارات الأمم؟
ثم، أين نجحتم يا دولة الرئيس؟ أفي الأمن، أم في العدالة، أم في الاقتصاد؟ في الحفاظ على الميثاق، أم في توفير قوت الناس؟ وفوق كل ذلك، ألا تخجلون من دفع إقامتكم الفخمة في جناح الضيافة في السرايا الكبيرة، وحفلاتكم، والناس جياع، وحقوق المواطنين في ثلاجة وزارة المال؟ فمن أنتم يا أصحاب الدولة والمعالي... أأنتم من طينة هذا الشعب وآلامه... أم هي الصحون الطائرة أتت بكم من كوكب غريب؟
المطلوب هو الاستقالة... يا دولة الرئيس...!؟
تقولون لا للتوطين... ونراكم تسيرون به على قدم وساق... وما يجري على الأرض وفي كواليس اللقاءات المحليَّة والعربيَّة والدوليَّة خير دليل على ما نقول.
تقولون لا للفدرالية... ونراكم ترسمون حدود المزابل والأوكار.
تقولون بالعروبة... وتسيرون في شرق ــ أوسطيَّة، أولى مهماتها إلغاء تلك السمة الحضاريَّة التي تجمعنا.
فكفى... كفاكم مراوغة يا دولة الرئيس... كفاكم كذباً... على شعب يحمل على منكبيه جبالاً من الأحزان.
في أي حال، ومهما يكن الجواب، ومهما تعثَّرت الأمور، ستبقى ذاكرتنا الموشومة ذخيرة في وجدان البقاء لنستردَّ لبنان... لبنان الذي كان. أما حكومتكم فستبقى، في أعين الناس، ومهما طال الزمن، كما في دفاتر التاريخ، حكومة الوطن المستباح.
* كاتب لبناني