نورس مصطفى *
في خلال السنوات الانتقالية بين نهاية القرن العشرين وبداية القرن الحالي، أمسكت الولايات المتحدة بيدها صفوة أوراق اللعبة الدولية الرئيسية، وغدا اتخاذ أي قرار وتقرير أي حل نهائي من دون رضاها ضرباً من المستحيل، فما الذي نستطيع انتزاعه من المشهد العام؟
مع نهاية الحرب الباردة أخذ أيديولوجيو اللحظة الأميركية الجديدة يصوغون المقدمات العملية لفلسفة السيادة المطلقة، وكان كل شيء في المقدمات النظرية جاهزاً. العامل الأيديولوجي شكل أساساً ثقافياً ودعائياً لهذه الفلسفة. فقد قامت هذه الفلسفة انطلاقاً من نواة أيديولوجية ذات محورين: الأول يقوم على الاعتقاد بأن أميركا مكلَّفة برسالة، والثاني على اليقين بأن أداء هذه الرسالة يستلزم استخدام كل الوسائل بلا تحريم. وهكذا بدا أن ما يميز السياسة الأميركية منذ مولدها، هو الثبات في العمل مع القدرة على متابعة الهدف، وكذلك مواصلة الجوهر الأيديولوجي المولد للعمل. ولا شك في أن هذه السياسة بلغت ذروة تحقيقها في فجر القرن الثامن عشر وزادت أيضاً في مطلع القرن التاسع عشر. لكن ميشال بوغنون موردان في كتابه «أميركا التوتاليتارية» (L’amerique Totalitaire)، يذهب إلى «ان الأيديولوجيا الأميركية لم تتورَّع عن خلع صفة الأزلية على أطروحتها، حيث إن ادعاء الرسالة الإلهية لم يغب يوماً عن ناظرها». ويورد بوغنون كلاماً لمعاون الرئيس السابق بيل كلينتون لشؤون الأمن القومي أنطوني لاك، جاء فيه «أن مصالحنا ومُثُلنا لا تلزمنا بالتدخل فحسب، بل تلزمنا أيضاً بالقيادة (...)». ويضيف: «من واجبنا تطوير الديموقراطية واقتصاد السوق في العالم، لأن هذا يحمي مصالحنا وأمننا، ولأن الأمر كله يتعلق بانعكاس القيم التي هي في الوقت عينه قيم أميركية وعالمية (...)». وهكذا فإن انتصار الأميركيين الأبرز هو بكل تأكيد الحضور الكلي لأيديولوجيتهم. فالليبرالية وهي أكثر عقيدة اقتصادية خالصة، تمثِّل أيضاً رؤية قوية للعالم، استقبلها الكثير من المالكين ومجموعات المصالح بوصفها نعمةً وخلاصاً. لقد صارت الليبرالية رؤية وعقيدة تخدمان مصالح الأميركيين وتنقذان المظاهر الأخلاقية ــ على الأقل ــ ما دامت الليبرالية كمفهوم تنطوي على ركيزة دينية. وهو ما كان لاحظه توكفيل لجهة وجوب اعتبار الدين بالنسبة إلى الأميركيين بمثابة المؤسسة السياسية الأولى. ثم إن جمهور الناس، أولئك الذين لا يفهمون شيئاً كثيراً من الألعاب السياسية والاقتصادية، اقتنعوا بفعل الحملات الإعلامية بعدم وجود أي عقيدة أفضل من هذه العقيدة (...)، ولقد رأينا منذ البداية وقبل أن تصبح أميركا هي الولايات المتحدة، كيف أنها كانت تزعم شمولية نمطها التنظيمي الخاص. ولم يسعَ مفكروها ــ من أساتذة وكتَّاب وكهنة ورجال دولة ــ لحظة واحدة إلى إخفاء هدفهم الأخير: فرض نمط حياتهم على بقية العالم، على ان يجري ذلك عبر آليات أخلاقية تكتظ بالتعالي على الآخر، أي آخر.. منها في المقام الأول ما يسميه بعض المفكرين «القدرة»، أي من خلال تأدية عروض مثيرة تظهر «الصورة الساطعة لأمة جديدة اختارها الله لغاية وحيدة هي تزويد كل الشعوب بالرسالة الوحيدة ذات المستقبل المصوغ بصورة زاهية. ثم في المقام الثاني وضع الآخر جبراً في منطقة القبول بالقدر الأميركي. فثمة يقين لدى «فقهاء الأمركة» بأن إذعان الآخرين عنوة ــ كائناً ما كان شكل الإكراه ــ هو أمر محتوم في مواجهة هذه الممانعة أو تلك. فأميركا تنظر الى نفسها وتريدها كلية لا تضاهى. وبهذه الصفة لا تتصور ذاتها إلا بصفة كونها متفوقة على مجمل المناطق التي يتحرك في داخلها أفراد وأمم، وترى أن من واجبها احتواءها.. وبهذا المعنى فإنها ــ على ما يزعم فقهاؤها ــ هي العالم، ما دامت العناية الإليهة أمرت بذلك، وما دامت تجسِّد نصاب العالم المقبل وفقاً للخطط الإلهية. ومن المقدّر ــ تبعاً لهذا الادعاء الأيديولوجي ــ أن تقع على كاهلها مسؤولية إملاء قانونها، القانون الذي شرّعته السماء وفرضته على الأمم والشعوب».
مع دخول أميركا حقبة جورج دبليو بوش أخذت تتبلور الصورة الإمبراطورية ذات «الطابع الرسالي التوتاليتاري». لم يعد الأمر بالنسبة إلى الفريق الحاكم مقصوراً على القبول بدولة عالمية، بل بات كل شأن من شؤون العالم شأناً يخصها، ويتصل اتصالاً عضوياً بأمنها ومصالحها الجيو ــ استراتيجية.
في نهاية الحرب الباردة انبرى عدد من الاستراتيجيين إلى الجزم بأنه يوجد اليوم نظام عالمي، وتقوم الولايات المتحدة في هذا النظام بدور لا ينحصر في الممثل الأكبر، بل يمتد إلى دور المدبِّر. فبعد إقصاء الخصم السوفياتي لم تعد وحدة أوروبا تعود عليهم بأي منفعة، وتالياً قوتها الاقتصادية، لذا لا يستطيعون التسامح في أن تصبح هناك قوة عظمى جديدة يتقاسمون معها السلطة العالمية.
أكثر من هذا، فقد تجاوزت الثقافة التوتاليتارية الأميركية الجديدة ــ بمعناها الإمبراطوري الممتد فوق السيادات القومية والوطنية ــ الأخلاق السياسية التقليدية. وراحت تتصرف، تنظيراً وتطبيقاً، على النحو الذي يرى إلى تبرير سياسات التمدد والنفوذ بوصفه أمراً لا طائل منه.. هذا ما صرَّح به هنري كيسنجر حين قال: «ما دام جيل ما بعد الحرب الباردة من القادة الوطنيين يشعر بالحرج عند التصريح بمبدأ غير اعتذاري عن مصالح قومية مستنيرة، فإنه سيحقق فعلاً تراكمياً لا ارتقاءً أخلاقياً». ومرة أخرى سيقول عدد من الباحثين الأميركيين كلاماً دالاً على هذه النقطة: «إن البلد الذي يجعل من حقوق الإنسان عنصراً أساسياً في سياسته الخارجية، يميل إلى الوعظ الأخلاقي عديم الجدوى في أحسن الأحوال، وإلى استخدام العنف المفرط بحثاً عن أهداف أخلاقية في أسوأ الأحوال».
* باحث في الشؤون الدولية