محمد شقير *
العصبية قيمة خلقية سلبية تنتمي إلى منظومة القيم الجاهلية، ولقد حاول الإسلام جاهداً إفراغها من مضمونها، الذي ينتمي إلى أي مظهر من مظاهر الدنيا وعالم المادة (عرق، جنس، لون، منطقة، طبقة)، ومحاولة ملئها بمضمون آخر، يحيلها إلى مفهوم آخر بغض النظر عن التسمية والتعبير.
ولذا يقول الإمام علي (ع): «فإن كان لا بدّ من العصبية، فليكن تعصبكم لمكارم الخصال ومحامد الأفعال، ومحاسن الأمور، التي تفاضلت فيها المجداء النجداء من بيوتات العرب ويعاسيب القبائل بالأخلاق الرغيبة والاحلام العظيمة».
ولقد رأى الإسلام ان العصبية تعبير عن حالة الفخر والكبر والحمية والاستعلاء كمرض نفسي، والتي ما إن تأخذ بعداً اجتماعياً حتى تتمظهر في عصبية عرقية أو مناطقية أو طبقية وما سوى ذلك لتشير إلى حالة غير سوية تكمن في البعد النفسي ــ الاجتماعي الذي تمظهرت فيه هذه العصبية أو تلك.
من هنا فإن العصبية تعبّر عن أوضاع غير سوية في القيم الأخلاقية السائدة وفي المحتوى النفسي لهذه البنية الاجتماعية أو تلك وعن أكثر من خلل خلقي، وهو ما يؤدي إلى ولادة العصبية التي تسعى إلى التعبير عن نفسها بمفاهيم مصطنعة لا تملك بعداً واقعياً أو حقياً (نسبة إلى الحق) يبرر نشوءها ووجودها.
هنا قد يكون مناسباً تقديم مقاربة فلسفية لمفهوم العصبية، باعتبار انه يبتنى على أساس غير واقعي (بالمعنى الفلسفي)، ليس على مستوى الظواهر التي تنتمي إلى مقولات المادة (جنس، لون...)، بل على مستوى صدقية التلازم بين هذه الظواهر المادية، وبين النتائج المعرفية التي يراد لها ان تؤسس لثقافة العصبية، فمن قال إن اللون ــ كظاهرة مادية ــ يبرر إيجاد ثقافة عصبوية ترتكز عليه، ومن قال ان العرق يبرر إيجاد عقيدة عصبوية تنتمي إليه؟ وهكذا الأمر بالنسبة إلى كل المواد العصبوية التي تتخذ ذرائع للقيام بتأسيس عقدي ــ ثقافي لوباء العصبية.
نعم الأمر ــ كما أسلفنا ــ يتجاوز في عمقه هذه الظواهر المادية لتمتد جذوره إلى طبيعة النفس البشرية، التي قد تطغى فتميل إلى الكبر والفخر والاستعلاء الذي ما إن يأخذ بعداً اجتماعياً حتى يحتاج إلى ان يتمسك بجملة من المواد العصبوية والظواهر المادية ليتخذها أساساً لبناء ثقافته العصبوية التي قد تقوم على أساس من القبيلة أو العائلة أو المنطقة أو القوم...
ولذلك فإن كان هناك من يفرّق بين عصبية مذمومة وأخرى ممدوحة في الإسلام كالتعصب للحق، فهو في واقع الأمر إشارة الى مضمون يخالف حقيقة العصبية وجذورها، كما يقول الإمام علي (ع): «فتعصبوا لخلال الحمد من الحفظ للجوار، والوفاء بالذمام، والطاعة للبرّ، والمعصية للكبر...». فالتمسك بهذه الفضائل والمكارم والقيم يؤدي الى إنتاج ثقافة لاعصبوية بالمعنى المصطلح.
وعليه يمكن القول إن الرؤية الإسلامية تستثني التعصب للحق، ليس فقط بالمعنى القيمي، بل أيضاً بالمعنى الفلسفي والمعرفي، حيث إن المراد بالحق هنا كل واقعية تبرر مفهومي الولاء والانتماء،.
ومن هنا يصح القول إن مفهوم العصبية الذي ينبذه الإسلام، هو المفهوم الذي يرتكز على أية ظاهرة مادية أو تاريخية تتعدى إطار الحق بالمعنى المعرفي، فيما مفهوم العصبية الذي يدعو إليه الإسلام هو مفهوم يرتكز على أساس معرفي، أي على فكرة الحق. الحقيقة، وهي فكرة تحمل بنفسها نتيجة الشعور بالانتماء إليها والولاء، لأن منظومة فكرية كهذه تقوم على أساس الحقانية (الحق)، سوف تستولد بشكل منطقي شعوراً بالانتماء والولاء لكل ما يكون أكثر حقانية وأشد في الحق (بالمعنى الوجودي)، أي لله تعالى، ولكل المفاهيم والقيم التي تحمل تبريرها المعرفي في تلك المنظومة. وفي هذا يقول الإمام علي (ع): «إن كنتم لا محالة متعصبين فتعصبوا لنصرة الحق وإغاثة الملهوف».
فهل تكمن المشكلة هنا في الدين أم في المتدين، وهل هي في الحقيقة الدينية أم في فهم تلك الحقيقة؟ لأنه ليس أمراً مقبولاً ومستساغاً ان ينقلب الشيء الى ضده، وان يقود الى خلاف هدفه عندما يتموضع في الإطار الاجتماعي.
ما ينبغي قوله ان المشكلة هي فهم البعض للدين وحقيقته، وأيضاً في سوء تطبيقه للقيم والمفاهيم الدينية. لأن الدين قبل أي شيء آخر هو انتماء معرفي ــ عقدي وعلاقة بالله تعالى، وكل القضايا الدينية الأخرى يجب ان تفهم من خلال ذلك الأساس، لكن ما يحصل ان البعض بدل ان يفهم الدين فهماً صحيحاًَ يؤدي الى كنس كل تلك العصبيات المصطنعة، والتخفيف من حدتها، فإنه يحاول ان يسقط عصبياته على الدين نفسه لتأخذ تلك العصبيات تبريراً دينياً وبعداً قداسوياً فتصبح والحال هذه أشد خطورة وأكثر فتكاً، بل ان البعض يتعامل مع أي تمايز ديني أو اختلاف طائفي أو مذهبي من موقع عصبوي ــ مرضي، لا من موقع معرفي ــ حقاني، فلا يعود الاختلاف أو التمايز وسيلة لاستجلاء الحق ومعرفة الصواب، بل تراه ينتصر لطائفته أو مذهبه كما ينتصر أي جاهلي لقبيلته، وتراه ينافح عن طائفته ومذهبه كما ينافح أي جاهلي عن عشيرته، هنا يصبح واقع الاجتماع الديني مرادفاً لما عليه الاجتماع الجاهلي، ويصبح المذهب الفلاني مرادفاً للعشيرة الفلانية أو لبني فلان أو علان، وتؤول الطائفة الفلانية الى تلك القبيلة أو غيرها، أي ان ما هو موجود هو اجتماع جاهلي لكن بتعابير وتسميات جديدة دينية أو غير دينية، فيما القيم واحدة والمفاهيم واحدة والخلل في البنية النفسية الاجتماعية ما زال موجوداً، وما اختلف هو التمظهرات الجديدة نتيجة اختلاف طبيعة الانقسام الاجتماعي من انقسام جاهلي ذي وجه قبلي الى انقسام جاهلي ذي وجه ديني، فمحل القبيلة الفلانية تحل الطائفة العلانية، ومحل العشيرة الفلانية تحل هذه الجماعة المذهبية أو تلك، وبالتالي اختلفت التسميات لكن الروح الجاهلية ما زالت كامنة والأخلاق الجاهلية ما زالت فاعلة وما زال الخلل في بنية الاجتماع النفسي يترك أثره في نسج علاقات وإنتاج سلوكيات ومواقف تتنافى مع قيم الإسلام وتنسجم مع قيم الجاهلية وثقافتها.
* أستاذ جامعي وحوزوي