بولس الخوري *
الشباب، في لبنان كما في أيّ بلد من بلدان العالم، هو ضمانة استمرار الحياة للمجتمعات والأوطان. وطالما كان رهان اللبنانيّين البالغين والكهول على الشباب اللبنانيّ، الجامعيّ منه وغير الجامعيّ، المثقَّف الكلاسيكي والمثقَّف المهنيّ، يرونه صانعاً بلداً، مجتمعاً ووطناً ودولةً، يطيب العيش فيه. وطالما حلم اللبنانيّون الذين عانوا ما عانوه من ويلات الحرب الأهليّة ومن هدر إجراميّ للطاقات الشبابيّة، ومن قبضة زعامات استبداديّة على الأذهان الشبابيّة، حلموا أن يتمكّن الشباب، أو على الأقلّ الجيل الذي شبّ بعد محنة الفتنة وتسلّط الزعامات، من التحرّر من التأثيرات الإيديولوجيّة والاقتصاديّة، الداخليّة منها والخارجيّة، فيسعى جاهداً في بناء وطنه لبنان وطناً جديداً بهيّاً، محصّناً، لا تنال منه مساعي من سعى إلى تفتيته وربطه بمصالح داخليّة وخارجيّة ليست من مصلحة الوطن في شيء.
وكان في لبنان كثير من الشبّان والشابّات توصّلوا إلى تصوّر لما قد يكون عليه وطنهم المثاليّ. ولكن كان، ولمّا يزل أيضاً، في لبنان كثير كثير من الشبّان والشابّات اضطرّتهم ظروف اقتصاديّة وتأثيرات تربويّة إلى تصوّر وطنهم في هيئة باخرة شحن محمَّلة بضائع وركّاباً، يقودها قلّةٌ ممّن اقتنصوها وسطوا عليها، وأخذوا يتحكّمون بالحمولة وبالركّاب. فعادوا لا يستطيعون التحرّر من وطأة المسيطرين، حيث ليس من فسحة لهم في العيش إلاّ من طريق الإذعان للمتزعّمين واستجداء أسباب العيش. ليس من شيء أشدّ مرارةً من الخيبة التي مُني بها اللبنانيّون العتاق، الذين تبدّدت أوهامهم وأحلامهم لمّا شاهدوا ما صار إليه الشبّان والشابّات اللبنانيّون. فبدلاً من حرّيّة الرأي ومن تحكيم العقل الفطريّ ومن الجهد الفتيّ في بناء الوطن الواحد المتماسك، طغى الانقسام والتعصّب والانقياد للغرائز العدوانيّة، ومنها تجاهل الحوار الهادئ البنّاء، ومنها السعي إلى فرض الرأي على الآخر، ومنها الانزلاق إلى حدّ السعي إلى إلغاء الآخر. وذلك بدافع من القيّمين على تنشئة الشبّان والشابّات ومن المسيطرين على مصائرهم.
رفقاً بالشبّان والشابّات الأبرياء وبفطرتهم السويّة. ما ذنب الصغار في أحقاد الكبار؟ لا تمعنوا في تعطيل ما لهم من عقل فطريّ ناقد يعرف الخير من الشرّ والصواب من الخطأ، وما لهم من التزام عفويّ بقيَم إنسانيّة ووطنيّة. ليس الشبّان والشابّات اللبنانيّون قطيعاً يُساق على هوى المتزعّمين. بل لهم رأيهم ونظرتهم السويّة، ما يجعلهم يرون بوضوح ما هو الأصلح للوطن الذي يريدون. فكفّوا، رجاءً، عن أن تستعملوا الشبّان والشابّات اللبنانيّين وقوداً لماكينات مبارزاتكم. وإذا أمعنتم، أيّها المتزعّمون، في التشاجر، افطنوا إلى أنّكم إخوة في العائلة الواحدة، حيث جميعكم تجاهرون بحبّكم لوطنكم وبإخلاصكم لما يُصلح شؤونه. وقد يشعر المواطن بأنّ الاتّهام المتبادل بفقدان الصفة الشرعيّة أو الدستوريّة لا يجدي نفعاً. فالكلّ بات يعلم أنّ اللبنانيّين، ومنهم الزعماء على وجه التخصيص، قلّ ما تصرّفوا وفقاً لمقتضيات شرع أو دستور. وقد يشعر المواطن بأنّكم لا تأبهون لحاجاته ومطالبه. فبدلاً من النظر الحاقد بعضكم إلى بعض، انظروا إلى حاجات المواطن، وقد أنهكته أعباء الحياة والعيش اليوميّ. وتعاونوا على تلبية بعضٍ من هذه الحاجات، من أمن ومبيت وتربية وعمل وطعام ومداواة وإنارة وغيرها من الأشياء اليوميّة.
قد يحصل أن يتشاجر الأخ مع أخيه في العائلة الواحدة، لكن متى كان البيت مهدَّداً بالتداعي والخراب، رأيتهما يتضافران للذود عن بيتهما المشترك. وقد يحصل بين الأخ الأكبر الأقوى وأخيه الأصغر الأضعف شجار قد يكون أقرب إلى لعبة الكباش أو العضّ على الأصابع. فتراهما يستعمل كلٌّ منهما ما أوتي من قوّة، حتّى إذا شعر الأقوى بأنّ الأضعف قد يؤلمه الانكسار، رأيته يرفق بأخيه فيتراخى للأضعف ويتنازل عن تفوّقه ويعمد إلى جعل الأضعف يتغلّب عليه، كي لا يخسر أمام الغير وأمام نفسه ما يسمّونه «ماء الوجه». وفي مثل هذه الحال، يعلم الأضعف أنّه تغلّب على الأقوى لأنّ الأقوى أراد له ذلك من دون أن يرقى الشكّ إلى أنّ الأكبر هو الأقوى وأنّه تنازل لتوفير ما هو أهمّ من الربح في المشاجرة والكباش، أي اللحمة العائليّة واعتراف كلٍّ من الأخوين بأنّ الآخر هو أخوه، وبأنّ لهما المصلحة الأساسيّة الواحدة. ثمّ هل من البطولة أن يقوم الأقوى بسحق الأضعف؟ إذّاك كان الأحرى به أن يجابه من يساويه قوّةً ويحاول التغلّب عليه. وكان الأحرى به أن يعزف، حياءً، عن استعمال قوّته. وقد قال باسكال Pascal إنّ الإنسان قصبة رخصة العود قد يسحقها جلمود صخر، لكنّه يبقى أرفع ممّا سحقه لأنّه يعلم ذلك في حين أنّ ما سحقه لا يعلم. وقد يحصل أن يكون الساحق والمسحوق عالمين بما يجري.
وقع الإخوة اللبنانيّون في فخّ المشاجرة والعناد. وهذا ما نصبه لهم من لا يضمر أيّ خير للبنان، بل من يهلّل للمشاجرة بين الإخوة، بل للمقاتلة بينهم، حتّى يصير الخلاف إلى حدّ إلغاء الآخر فإلغاء الوطن. فإذا ما دام العناد بين الإخوة المتشاجرين، موالاةً كانوا أو معارضة، فيما الفريقان يهمّه أوّلاً وآخراً مصلحة الوطن المشترك، كان عنادهم خدمةً مجّانيّة لمن يضمر العداء للبنان وينتظر بفارغ الصبر أن يراه يتشتّت ويزول على أيدي أبنائه. فيطمئنّ ضامر العداء هذا لاختفاء أحد منافسيه من الوجود. فليبادر الأقوى إلى المصالحة، ويتضافر الفريقان في سبيل إنقاذ ما تبقّى، أو ما أبقو عليه، من وطنهم.
أما آن الأوان لمن يظنّ، من الموالاة والمعارضة، أنّه هو الأقوى، أن يتراخى ويتنازل بعد ترفّع، ويعزف عن العناد والتصعيد في معارضته أو موالاته، ويعترف بالآخر وبما للآخر من مطلب صائب، وبما هو الأهمّ في نظر الآخر الساعي هو أيضاً إلى خير الوطن الواحد؟ وليس ما ينقص من قيمة الأقوى إذ تنازل. على عكس ذلك، فإنّ تنازله لأدلّ دليل على أنّه الأقوى. وقد يكون الأجدى أن يعترف كلّ فريق بما للفريق الآخر من قيمة ومن مطالب محقّة، من دون النظر إلى من هو الأقوى ومن هو الأضعف. إذّاك تكون قد تحقّقت الصيغة اللبنانيّة «لا غالب ولا مغلوب»، ويكون قد توفّر للفريقين «ماء الوجه»...
* كاتب لبناني