نظام مارديني *
المؤتمر الذي دعت إليه الحكومة العراقية بضوء أخضر من الإدارة الأميركية، والذي يضم إلى جانب دول الجوار بريطانيا وروسيا. سيكون هذا المؤتمر هو الأول من نوعه منذ ثلاث سنوات، الذي يجلس فيه دبلوماسيون أميركيون مع نظرائهم الإيرانيين والسوريين لمناقشة الوضع الأمني في العراق، وذلك بعد ضغوط تعرض لها الرئيس الأميركي جورج بوش للتخلي عن رفضه الحوار مع طهران ودمشق، وهي ضغوط بدأت منذ صدور تقرير بيكر ــ هاملتون سعياً وراء مخرج للمحتل يوقف الانهيار والتداعي ويضبط إيقاع الأزمة العراقية على المتغيرات في البيئة الإقليمية والتوازنات الدولية، لتتفاعل مع المرحلة الانتقالية التي دخلتها الولايات المتحدة على وقع التباين بين المؤسسة الحاكمة التي قررت استراتيجيات جديدة نصت عليها توصيات لجنة بيكر ــ هاملتون ومشاريع بقايا إدارة الصقور الممثلة ببوش ــ رايس ــ تشيني المتداعية أوراقها وأدواتها.
وثمة أسباب دفعت واشنطن إلى الاتجاه نحو استخدام الدبلوماسية مع دولتين مجاورتين للعراق. فهي قد لا تقتصر على الملف الأمني العراقي فقط، فالكل يعلم مشاكل واشنطن مع طهران ودمشق سواء ما يتعلق منها بالملف النووي الإيراني أو الدعم السوري للمقاومة في فلسطين ولبنان والعراق ما يفسح المجال أمام وزيرة الخارجية الأميركية لمناقشة المواضيع والتوصل إلى تفاهم معهما. وثمة تأكيد أيضاً أن بوش وبعد مرور أكثر من شهرين على صدور تقرير بيكر ــ هاملتون اقتنع بما ورد فيه عن أمن العراق، إذ وردت في أربع توصيات من أصل 79 توصية، الدعوة إلى إشراك إيران وسوريا في مباحثات حول العراق. في التوصية 8، مثلاً: ذكر «ان التعامل مع إيران وسوريا مثار خلاف، ومع ذلك نرى أن أي أمة من وجهة نظر دبلوماسية، يمكنها وينبغي عليها أن تشرك خصومها وأعداءها في محاولة لتسوية النزاعات والخلافات تماشياً مع مصالحها، وعليه فإن على المجموعة الدولية إشراك إيران وسوريا في حوارها الدبلوماسي من دون شروط مسبقة...».
لقد طرحت توصيات مجموعة بيكر ــ هاملتون جملة خطوات سياسية ترافق سحب القوات الأميركية من العراق. وهذه التوصيات تحمل مشروعاً جيداً لمستقبل سياسي وأمني أفضل للعراق وللمنطقة. لكن الإدارة الأميركية تجاهلت عملياً هذه التوصيات، ولم يتبنّها الديموقراطيون في الكونغرس بشكل فاعل. ولم يطالبوا بها مخرجاً وحلاً لأزمة السياسة الأميركية في العراق وفي الشرق الأوسط. وميزة توصيات بيكر ــ هاملتون أنها لا تمثل رأياً حزبياً في أميركا بل هي حصيلة جهد كبير قامت به مجموعة من الشخصيات والخبراء الأميركيين المنتمين إلى الجمهوريين والديموقراطيين معاً. فهي توصيات «وطنية» أميركية بامتياز.
وفي ضوء هذا الصراع السياسي الدائر في الولايات المتحدة على مصير القوات الأميركية في العراق، جاء إعلان مؤتمر بغداد ليشكل قوة دعم لموقف الديموقراطيين في الكونغرس الأميركي، وليزيد من أزمات إدارة بوش على المستويين الداخلي والخارجي. فالضغط الشعبي الأميركي المتزايد على أعضاء الكونغرس من أجل سحب القوات الأميركية أصبحت له أولوية بعدما نجح هذا الضغط في إيصال غالبية ديموقراطية إلى مجلسي النواب والشيوخ في انتخابات تشرين الثاني الماضي.
وعلى الرغم من محاولات الإدارة الأميركية الإيحاء بعدم التغيير في ثوابت السياسة الخارجية الرافضة إسباغ الشرعية على إيران وسوريا عبر الدخول معهما في حوار دبلوماسي، ما دامتا تصران على مواقفهما الراهنة وترفضان تقديم تنازلات في القضايا المتنازع عليها. وهكذا صرحت رايس في الثاني عشر من كانون الثاني الماضي أمام هيئة من أعضاء مجلس الشيوخ في دفاعها عن موقف الإدارة الأميركية إزاء إيران وسوريا قائلة: «إنها ليست دبلوماسية، بل هو ابتزاز واضح»، في إحالة على دعوات البعض إلى الدخول في حوار مع طهران ودمشق. وقد أصر مسؤولون في الإدارة الأميركية خلال الأيام الأخيرة على أن الانفتاح الأخير الذي تجلى في موافقة البيت الأبيض على مشاركة إيران وسوريا في النقاش حول العراق لا يعني أبداً تغيير السياسة الخارجية وهو ما أكده توني سنو، المتحدث باسم البيت الأبيض بالقول بعدم وجود شرخ أو تغيير في السياسة الخارجية، على رغم اعتقاد العديد من الشخصيات الأميركية بأن مشاركة الولايات المتحدة في اجتماع إقليمي حول العراق هي بمثابة تغيير في السياسة الخارجية، وهو ما رآه وزير الخارجية الأسبق جيمس بيكر الذي قال «إن على أميركا أن تستعد للتحدث مع أعدائها».
غير أن الإدارة الأميركية واصلت مشروعها السياسي والأمني في العراق والشرق الأوسط على رغم الفشل الكبير الذي حظي به هذا المشروع. وتحاول هذه الإدارة أن تصبغ خطتها الأمنية الجديدة في العراق بألوان سياسية، بينما الكل يدرك أن خطة بوش الحالية في بغداد هي خطة أمنية لم تتعامل مع الأسباب الكامنة خلف فشل المشروع الأميركي في العراق الذي أدى إلى تهديم أركان الدولة العراقية وتفكيك وحدة المجتمع العراقي وإشعال حرب أهلية بطابع عرقي ومذهبي، ليتحول العراق إلى ساحة مواجهة إقليمية دولية. ما يحدث الآن هو وضع العراق والمنطقة في خيارين: استمرار الاحتلال وممارساته والعنف الدموي الناتج منه، أو «الهروب» من الحرب من دون مشروع سياسي يضمن مستقبلاً استقرار العراق وأمنه ووحدته.
بوش ووزيرة خارجيته ربما وجدا الوقت مناسباً الآن لإعلان محادثات تشمل إيران وسوريا، من دون أن تظهر واشنطن في موقف ضعيف، ولا سيما أن البحرية الأميركية تستعرض عضلاتها في منطقة الخليج.
والواقع أن اللهجة الحادة التي لجأت إليها رايس، لم تكن سوى مناورة لدرء انتقادات المتشددين داخل الإدارة الأميركية، وساعدت الولايات المتحدة على الجلوس إلى طاولة المفاوضات مع إيران وسوريا من موقع قوة.
ومع ذلك يظل من غير الواضح ما إذا كانت الإدارة الأميركية الحالية التي راهنت طويلاً على عدم التفاوض مع الأعداء ستغير موقفها في النهاية، علماً بأن المسؤولين في الإدارة نبّهوا إلى أن الولايات المتحدة لن تدخل في حوار مباشر مع إيران، أو سوريا، غير أن رايس رأت أن الانفتاح على طهران ودمشق يأتي ضمن «مبادرة دبلوماسية». وحسب دانيال سيروير، وهو نائب رئيس «معهد السلام» ودبلوماسي سابق عمل مديراً تنفيذياً في مجموعة دراسة العراق: لا تكمن المسألة في ما إذا كان محور الشر قد اختفى، أو أنه ما زال على قيد الحياة، بقدر ما تكمن في المفهوم نفسه، وما إذا كان ما زال قابلاً للتطبيق اليوم. فبالنسبة إليّ لا يوجد مانع من الحديث إلى أي كان للدفع بالأمور إلى الأمام.
* كاتب سوري