إيلي نجم *
(إلى المعلم بمناسبة عيده)
ما الذي يجعل المعلّم، عندنا وعند غيرنا من الشعوب والأمم، وفي بعض الثقافات والحضارات القديمة والحديثة، موضوع احترام وتقدير وتكريم؟ وما هي الأفعال التي يقوم بها المعلّم كي يستحقّ أن نحتفل بعيده كلّ عام؟ وماذا يعني أن نعلّم (التعليم والتربية) ونتعلّم (التعلّم والتثقّف)؟
أن نعلّم، يعني أن ننقل العلم إلى المتعلّم، علماً بأنّ العلم هو مجموع العلامات التي وضعها العقل البشريّ، على مرّ الزمن، للأشياء وعليها، بحيث تحيلني تلك العلامات على هذه الأشياء، وتحلّ محلّها، وغالباً ما تحول دونها، وهو الأمر الذي دفع الفيلسوف الألماني إدمونت هوسّرل (1859-1938) إلى أن يتحوّل عنها (أي عن العلامات) في محاولة «للتوجّه إلى الأشياء عينها»، بغية نقد ما عرفناه عنها ونقضه أو تجديده من طريق رفده بمعانٍ جديدة. فالعلاقة بين العلامات والأشياء ليست علاقة ضروريّة بالطبع، لكن قد تغدو كذلك بالتوافق. وهذا يعني أنّ المعاني التي خلعها العقل على الأشياء ليست ملازمة لها، بل هي نتيجة إعمال هذا العقل فيها.
في اليونانيّة، ثمّة مفردة «ماتيسيس» أو «ماثيسيس» (ومن هذا الجذر اليونانيّ بالذات اشتقّت المفردة الفرنسيّة والإنكليزيّة والألمانيّة والإيطاليّة التي تقابل في اللسان العربيّ مفردة الرياضيّات)، وهي تعني العلم بامتياز، أي ما في وسع المعلّم تعليمه والمتعلّم تعلّمه. ويبدو أنّ ما في وسع المعلّم تعليمه هو عينه ما في وسع المتعلّم تعلّمه، وهو العلامات بالضبط. في صدد هذا الأمر، يقول أفلاطون إنّ المتعلّم يأخذ علماً بما يعلمه هو عينه على كلّ حال ومنذ البداية بطريقة أو بأخرى. حينذاك، تغدو المعرفة تعرّفاً، أي تذكّراً، وههنا الأساس الوجوديّ أو الكينونيّ للصنعة أو الفنّ الذي أتقنه سقراط (في اليونانيّة تِقْنيه أي الفنّ) في تعليم الناس في أثينا القديمة، أي في استيلاد الأفكار من العقول قياساً على ما كانت تقوم به والدته فيناريتيه حين تستولد الأجنّة مِن الأرحام.
أن نعلّم، يعني أن نتيح للمتعلّمين أن يتذكّروا، أي أن يستعيدوا ويستحضروا ويتمثّلوا ما يحملون في قِرارهم. ويبدو أنّ ما يحملون في قِرارهم يقابل هذه العلامات. لذلك، بات على المعلّم أن يغيب ويمّحي، أي أن يترك المتعلّم وشأنه، ليعود هذا الأخير إلى ذاته (بعد أن يكون قد تنكّر لذاته سالكاًَ الطريق التي افتتحها المعلّم ومعتمداً طريقته عملاً وقولاً وتفكّراً)، ويستعيد في قِراره وبجهده ما يقابل هذه العلامات ويناظرها. في هذا السياق، قيل إنّه ينبغي أن نعلّم الناس أن يعلّموا أنفسهم بأنفسهم (مونتاني)، وإنّ المعلّم الجيّد هو الذي يعلّمنا أن نستغني عنه (أندريه جيد). وعلى هذا النحو، يستحيل التعليم والتربية تعلّماً وتثقّفاً، ولا سيّما أنّ مجالات المعرفة وصنوفها تتراكم وتتفرّع على نحوٍ يحتّم علينا فيه أن نعلّم أولادنا ما لا نعلمه بعد، بحسب عالِمة الإناسة الأميركيّة مارغاريت ميد (1901-1978).
أن نعلّم، يعني أن ننقل العلامات إلى المتعلّم. ومعنى ذلك أيضاً أنّ العلامات هي بمثابة القيم التي أقامها الناس وأقاموا فيها بمعنى أنّهم قالوا بوساطتها (أي بوساطة العلامات) الواقع وعيّنوه وعَنوه بعدما عاينوه وعانوا تعدّده وتنوّعه واختلافه، فاستعاضوا عنه بها، كما مرّ معنا، وتملّكوه رمزيّاً. فغدت الأرض، بوساطة تلك العلامات وفيها، عالَماً يكوّن الثقافة الخاصة بالناس الذين انشعبوا شعوباً وأمماً بحيث أضيفت هذه العلامات المستحدثة إلى علاماتهم الطبيعيّة الفارقة.
ولئن استدخل المعلّم العلامات، وحفظها واستبْدَنَها، وأغناها بتجربته الفريدة والفذّة، ثمّ نقلها إلى المتعلّم، غدا حارسها وراعيها، وبدا حينذاك كأنّه مرآة العالَم والذاكرة الحيّة للثقافة والحضارة الإنسانيّتين، حتى «كادَ أن يكونَ رسولًا»، على ما يقول الشاعر العربيّ.
وبمعنى من المعاني، غدا المعلّم آية ذاته.
* كاتب لبناني