ناصيف قزّي *
أن نَحصُرَ الجرائِمَ التي ٱرتُكِبَتْ في حقِّ لبنانَ وشعبِه، منذ أن كان الاستقلال عام 1943، ولا سيما منها ما وقعَ في العقودِ الثلاثةِ الأخيرة، أن نحصُرَها في الاغتيالاتِ السياسيَّة، فالمسألةُ فيها نظَر... فلا العدالةُ يمكِنُها أن تكونَ حصريَّةً أو ٱنتقائيَّةً، ولا الحقيقةُ تحتَمِلُ النسبِيَّة أو الاجتزاء... العدالةُ للجميع، والحقيقةُ لا تُدرَجُ خارجَ دائرةِ الحقِّ بمعناهُ الأشمل.
في أي حال، فإذا كان لا بدَّ للجرائِمِ التي طاوَلت أفراداً لبنانيّين، من رؤساءٍ وقادةٍ سياسيّين ورجالِ دينٍ ومفكّرين وإعلاميّين ومواطنين من مختلفِ فئاتِ الشعبِ وقطاعاتِ المجتمع، إذا كان لا بدَّ لتلك الجرائمِ من أن تأخُذَ حيِّزاً مهماً في عمليَّةِ البحثِ عن الحقيقةِ، وهذا أمرٌ طبيعيّ، لا بل واجبٌ وطنيٌّ وإنسانيّ، فإن أحداثاً وخياراتٍ بالغة الخطورة تستحقُّ، بدورها، حيِّزاً أكبرَ في مسيرة العدالةِ تلك، لما تتضمَّنُهُ من أفعالٍ جرميَّةٍ، لجهة آثارِها السلبيَّةِ على لبنانَ واللبنانيّين، والتي قد تستمرُّ لأجيالٍ وأجيال. وإذا كانت معرفةُ الحقيقةِ في الجرائِمِ الفرديَّةِ تستدعي قيامَ محكمةٍ خاصة، دوليةً كانت أو محليّةً، فالجرائمُ في حقِّ لبنانَ وشعبِه تستوجِبُ العدالةَ... العدالة التي يجب أن تطاوِلَ الجميعَ، من المتّهمينَ، المعلومين والمجهولين، الى الشهودِ والضحايا، تجريماً أو تبرئةً... فالبراءَةُ، كما الإثباتُ، يلزمُها، هي أيضاً، محكَمةٌ وحُكمٌ. فأين العدالةُ في السكوتِ عن الجرائمِ المتكرِّرة التي ترتكبُها إسرائيل في حقِّ فلسطينَ والفلسطينيِّين أولاً، ولبنانَ واللبنانيِّين ثانياً، منذ عقودٍ من الزمن؟ مَن سيسألُ إسرائيلَ عن جرائمِها في حقِّ المدنيّين، هي التي ما فتِئَت تطاردُ النازيّين في قبورهم، لما اقتَرفوهُ من جرائِمَ وفظاعاتٍ في حقِّ الإنسانيَّةِ، ومنها محرقةُ اليهود في Auschwitz، إبان الحرب العالميَّة الثانية؟
أين العدالةُ في السكوت عن الجماعةِ التي حكَمَت سوريا لفترةٍ طويلةٍ من الزمن، ووضَعَت يدَها على لبنان بمباركةٍ دوليةٍ وإقليميَّةٍ وعربيَّة؟ أين العدالةُ في عدم مساءلة عرّابي نظامِ الوصايةِ ووكلائِه في الداخل والخارج؟
أين العدالةُ في عدمِ مساءلةِ منظَّمة التحرير الفَلسطينيَّة، ومِن ورائِها بعضُ الأنظمةِ العربيَّة، عن انحرافِها في مسارِها النضاليّ، ووقوعِها في الحرب الأهليَّة التي جَرَّت الويلاتِ على اللبنانيِّين والفلسطينيِّين معاً؟ ولمصلحةِ مَن مِن الأفرقاءِ الدوليِّين أو العرب أو المحليّين جرى ذلك؟ وهل كان لبنانُ حقاً، ولا يزال، مشروعاً لوطنٍ بديل؟
أين العدالةُ في عدم مساءلةِ الميليشياتِ اللبنانيَّة على اختلافِها، والتنظيماتِ السياسيَّة التي تحدَّرَتْ منها، عن الخطفِ والقتلِ والتهجيرِ والتدميرِ والمقابرِ الجماعيَّة، وما الى ذلك من ويلاتٍ نكبات وفرز سكانيّ؟ ولماذا، ولمصلحةِ مَن، حَدَثَ كلُّ ذلك؟
أين العدالةُ في السكوت عن الإقطاعِ السياسيِّ والماليِّ في بلادِنا، ولا سيما في مرحلة ما بعد الطائف، وما خلَّفه من فسادٍ وهدرٍ للمال العام وتراكُمٍ للديون، وتحويلٍ للدولة الى شركة للأزلام والمحاسيب، أخطرُ بكثير مما كانت عليه خلال الحرب، وذلك من دون توفير الحقوقِ الأساسيَّةِ والتقديماتِ الاجتماعيَّة البديهيَّة للمواطنين، وما الى ذلك من حاجات؟
أين العدالةُ في عدم سؤال الإقطاعِ المكابرِ والمتسلِّط هذا، عن مشروعِ الدولة بالذات... وأين أصبَح؟ وهل العدالةُ في نظامِ المحاصصةِ الطائفيَّةِ والأرجحيَّةِ العشائريَّةِ والمناطقيَّة وسياساتِ المصالحِ الفئويَّة الضيِّقة على حساب ما يجب أن يكون؟
أين العدالةُ في اغتيالِ الشبابِ وطموحاتِ الشباب... وفي كيفيَّة اندثار الأجيالِ... وتبدُّدِ الرؤى والأفكار والأحلام؟
أين العدالة في أن تُصبِحَ عائلاتُنا اللبنانيَّة منتشرةً في القارات الخمس، ليضيعَ الإرثُ والتراثُ... ويتبخَّرَ معدِنُ وجودِ لبنان؟
وبعد، هل العدالة تعني العصيان الرسمي رفضاً لمناقشة بنود المحكمة مع شركاء الوطن؟ هل هي أن نضرب بالدستور والأعراف عرض الحائط ونوقف حياة الناس؟
أسئلةٌ وأسئلةٌ قد تدفعُنا الى حدِّ الرغبةِ في محاكمةِ القَدَر، لو لم نكن على يقين من أن دول الاستكبارِ العالمي وسياساتِ القهرِ الدوليَّة والإقليميَّة والمحليَّة، هي في حقلِ تساؤلاتِنا.
مَن سيحاسبُ كلَّ هؤلاء؟ مَن سيسائِلُهُم؟
رُبَّ قائلٍ إنَّ في هذا الكلام أضغاثَ أحلام، وإنَّ ما من أحدٍ يستطيعُ أن يحاكِمَ السلطةَ القائمةَ والمشترعين والقضاةَ والممسكين بزمامِ الأمور... وكأنَّهم فوق الشبهات؟
ولكن، ألا تُراهُم يخافون الله وينشدون العدلَ أولئك المسؤولون من أهل السلطة، ومعهم كلُّ من يَثبُتُ ضلوعُه أو مشاركتُهُ في تلك الأحداث والمسارات، وجلُّهم ممَّن يبدأون كلامَهم بذكرِ الله ويختمونَه بسلامِه ورحمته، ألا تُراهُم يُراجعونَ أنفسَهُم ويسألون، فيما لو كانوا أحياءَ الضمير فيعتَرِفوا بكلِّ شجاعةٍ، بما ارتكبوه من أخطاءٍ وخطايا في حق لبنان وشعبه، أو بما أحجَموا عنه من خيرٍ عام، ويعتذروا؟ وعندئذٍ يَحِلُّ التسامحُ عنواناً للزمن الجديد. ألا يدركُ هؤلاء بأنَّهم، وإن ظنَّوا، وخلافاً لما نظنّ، بأن العدالة لن تتحقَّقَ ما داموا ممسكين بميزان العدل، لن يفلِتوا من حُكمِ التاريخ ولا من عدالةِ السماء... هناك، حيث يكونُ البكاءُ وصريفُ الأسنان...!؟
فهل كان أنبَل من اعتذارِ البابا يوحنا بولس الثاني عمّا يمكن أن يكونَ بعضُ الجماعاتِ المسيحيَّة، أو حتى الكنيسةُ نفسُها، قد ارتكبَتْهُ من أخطاءٍ عَبر التاريخ؟ والشعبُ الأرمني المظلوم، هل يطلبُ من الأتراك غيرَ الإقرارِ بالمجزرةِ التاريخيَّة... وبالتالي الاعتذار؟
ماذا يَمنَعنا من أن نعتَرِف بجرائِمِنا، نحن اللبنانيّين، حتى لا تتكَرَّرَ أو تُستعادَ عند المفترقات؟ أليس بالاعترافِ وبالاعتذارِ نكونُ أفضلَ حالاً ممّا يمكنُ أن نكونَهُ في وجعِ الانتظار. وإذا لم يكن الأمرُ كذلك، فالتاريخُ لنا بالمرصاد... والحساب عسير. وما من شكٍّ أنَّ حُكمَ التاريخ يعبُرُ الزمان من جيل الى جيل... ليُدركَ السماءَ في نهاية المطاف. أوليست السماءُ غايةَ الأرضِ، كما الأرضُ في بدءٍ من السماء؟ والحقيقةُ، أتكونُ خارجَ جدليَّةِ الأرض والسماء... الجدليَّةِ التي تنتَصبُ العدالةُ عندها، عقداً بينهما؟
ليَكُن لنا، إذاً، مع التاريخِ، وفي غياب المحكمةِ المشتهاة، بعضٌ من عدالةٍ ارتضيناها، ولو على مضض، بانتظار عدالةِ السماء، التي، ومهما تأخَّرت، فإنها تنضَحُ في بدءٍ من الضمير... الضمير الذي يناحرُ نفسَهُ، عندما يكونُ في زَغَل. ولكن، هل بقي في بلادي، وفي هذا العالمِ المتعولِمِ حتى الجنون، من ذاك الضمير؟
وهكذا، فإن لم تأتِ العدالة كما هو مفروض، وحتى إذا بقي حُكمُ التاريخِ مرهوناً بمَن سيكتُبُ التاريخ... فالعدلُ معقودٌ، لا محالة، على نهايةِ التاريخ.
* أستاذ الفلسفة في الجامعة اللبنانيَّة