غالب أبو مصلح *
إلى أين تتجه قوى المعارضة في لبنان، أنحو تصعيد الصراع مع السلطة أم نحو حل تحت صيغة «لا غالب ولا مغلوب»، كما يدعو البعض؟ وهل حقاً أن صيغة لا غالب ولا مغلوب هي الصيغة اللبنانية التقليدية التي ينتهي عندها المتصارعون في ظل الانقسامات والانفعالات الطائفية المعطِّلة للتغيير؟ هل الصراع بين قوى المعارضة والسلطة هو حقاً على إعادة تقاسم السلطة، أم هو تعبير عن أزمة حكم، بل أزمة طبقة حاكمة، وأزمة نظام فقد مبررات وجوده وأصبح معوِّقاً للتقدم على كل الصعد السياسية والاقتصادية والاجتماعية؟ هل يمكن عزل لبنان عن محيطه الذي يضجّ بالصراعات المصيرية، أم انحيازه الكامل للمعسكر الأميركي، ووضعه تحت الوصاية الغربية الإمبريالية، لا يحقق حياده وفصله عن محيطه، بل يمثل بحد ذاته إغراقه في هذه الصراعات لا عزله عنها؟
كل هذه الأسئلة تتداعى اليوم، حيث نشهد ترابطاً شديداً بين ساحات الصراع الأساسية في المشرق العربي، بل في بلدان الشرق الأوسط كله، من أفغانستان إلى القرن الإفريقي مروراً بالعراق وفلسطين ولبنان. وإذا كانت الطبقة الحاكمة تاريخياً في لبنان، والتي كلما اشتدت أزمتها البنيوية تزداد ارتماء في أحضان الاستعمار والإمبريالية طلباً لدعمها ضد غضب الجماهير المطالبة بمصالحها الحقيقية، وتزداد انعزالاً عن محيطها وعداءً له.
إن السياسات الاستعمارية والإمبريالية كانت وما زالت تنظر إلى منطقة الشرق الأوسط، وخاصة المشرق العربي، كساحة استراتيجية عضوية واحدة فائقة الأهمية، لا بسبب موقعها الاستراتيجي، بل بشكل أساسي لما تملكه من ثروات نفطية. فقد أصبح النفط في الوقت الراهن السلعة الاستراتيجية الأكثر أهمية في العالم، والتي تدور حولها أهم الصراعات والمنافسات الدولية.
صحيح أن لبنان لا يملك نفطاً، ولكنه كسب أهمية استثنائية بسبب مقاومته التي استطاعت أن تلحق هزائم متتالية بالهجمة الإمبريالية الصهيونية عليه منذ عام 1982 حتى صيف 2006.
فقد استطاعت المقاومات اللبنانية، بإيحاءاتها وعلاقاتها وتأثيرها في الجماهير على طول الساحة العربية، من المغرب حتى العراق، أن تصبح قوة فاعلة ومؤثرة، متخطية الحدود اللبنانية، ومتجاوزة الانقسامات المذهبية والطائفية التي تعمل قوى الاستعمار والإمبريالية على تأجيجها في كل الساحات العربية. وبالتالي، فإن لبنان أصبح مستهدفاً لذاته بغية إجهاض مقاومته وإسقاط سلاحها، كما من أجل جعله منصة وثوب على سوريا وقوى المقاومة الفلسطينية.
إن انتصارات المقاومة الوطنية والإسلامية شكل استفزازاً وتهديداً للطبقة الحاكمة في لبنان، إذ إن منطق المقاومة في التصدي للعدوان الخارجي، يتناقض مع ثقافة الطبقة الحاكمة التي تعتقد أن «قوة لبنان في ضعفه»، أي في وضع لبنان، تاريخياً، تحت الحماية الأجنبية وفي خدمتها، وتعتقد، كما قال إدوار حنين، «أن لبنان إذا ما استقل يهتز، وإذا ما استتبع يعتز».
وهذا الاستتباع المنشود ليس نتيجة انحراف فكري، بل نتيجة ارتباطات مصلحية بالخارج عند أبناء هذه الطبقة. وبالتالي، وبعدما هبت رياح الهجمة الإمبريالية على المشرق العربي، التي شكل عدوان تموز 2006 ذروتها في لبنان، وقف معظم أركان السلطة اللبنانية علناً ومن دون خجل، إلى جانب هذه الهجمة الوحشية واستهدافاتها. كانت أهم هذه الاستهدافات القضاء على المقاومة الإسلامية، وربما اقتلاع أبناء الطائفة الشيعية من جنوب لبنان، ووضع لبنان بالكامل تحت الوصاية الأميركية الأوروبية، وتحويله إلى خنجر في الخاصرة السورية، بغية إسقاط النظام السوري الممانع والمقاوم أو الداعم للمقاومات اللبنانية والفلسطينية والعراقية.
استمرت الهجمة الإمبريالية الشرسة بعد فشل العدوان العسكري، عبر مجلس الأمن وكل أذرع ما يسمى بالشرعية الدولية، وعبر بعض القيادات الطائفية والمذهبية، القادرة على دفع جماهير ريفية ومدنية فقيرة، غاضبة ومهمّشة، ذات وعي بدائي، إلى التماهي مع المخطط الإمبريالي الصهيوني، كما عبر حكومة السنيورة، حيث مثّل السنيورة دور رجل أميركا الأول في لبنان، وذهب إلى أقصى درجات الاستتباع، إذ إنه لا يملك ما قد يخسره في تأدية هذا الدور.
استطاعت قوى المعارضة اللبنانية بعد انتصار تموز وقف زخم هذه الهجمة الشرسة عبر فرض تعديلات على بنود قرار مجلس الأمن الرقم 1701، ثم عبر تعطيل فعالية حكومة السنيورة وإجهاض استهدافاتها، حيث أفقدت هذه الحكومة شرعيتها وقدرتها على الحكم. وعطلت قوى المعارضة قيام محكمة دولية مسيّسة كلياً لمحاكمة قتلة الرئيس الحريري، لا تهدف إلى معرفة الحقيقة، بل إلى طمسها وابتزاز سوريا وقوى المعارضة اللبنانية، وعلى رأسها المقاومة الإسلامية.
واستطاعت قوى المعارضة حصر دور قوات الأمم المتحدة ونطاق انتشارها فوق الأرض اللبنانية. بكلام آخر، استطاعت قوى المعارضة اللبنانية منع استتباع لبنان بالكامل ووضعه تحت الوصاية الدولية، وتحويله إلى قاعدة انطلاق عدواني ضد أشقائه.
إن هذه الانتصارات التي حققتها قوى المعارضة اللبنانية حتى الآن، هي في غاية الأهمية وتتعدى كونها صراعاً على السلطة، كما يفهم البعض، ولكنها غير كافية لانتشال لبنان من استتباعه وتحقيق نهضته.
إن رياحاً جديدة تهب على المشرق العربي، بل على الشرق الأوسط كله، وبدأت آثارها تظهر للملأ. في بداية هذا القرن، أطلق بوش مبادئه المتمثلة بالحرب الوقائية، والحرب الاستباقية، والفرادة الأميركية التي تضع الولايات المتحدة فوق المعاهدات والمواثيق الدولية، وفي منأى عن المحاسبة والمساءلة عند ارتكابها جرائم ضد الإنسانية، كما تفعل اليوم في العراق وأفغانستان بشكل خاص. وأطلق بوش شعار الفوضى الخلاقة، وعمل على إذكاء هذه الفوضى غير الخلاقة عبر تحفيز الصراعات الإثنية والطائفية والمذهبية في العديد من دول العالم وتمويلها.
وبعد أحداث 11 أيلول، أطلق بوش العنان للوحشية الأميركية. فبعد غزو أفغانستان وتدميرها، أصدرت وزارة الدفاع الأميركية عام 2002 مذكرة «تصف كيف ستجهز الولايات المتحدة على سبع دول خلال خمس سنوات، تبدأ بالعراق ثم سوريا، مروراً بلبنان وليبيا والصومال والسودان، وتنتهي بإيران»، حسب ما قاله الأمين العام السابق لحلف شمال الأطلسي، الجنرال المتقاعد ويسلي كلارك.
ولكن العدو الأميركي تعثّر في العراق وغرق في أوحاله، ويسعى الآن للخروج منه بماء الوجه، بعدما نجح في «إعادته للعصر الحجري»، كما وعد بوش. حاصر المقاومة الفلسطينية بالدبابات الإسرائيلية والتجويع عبر اللجنة الرباعية وبعض الأنظمة العربية، ولكنه لم يستطع دفع الشعب الفلسطيني إلى الاستسلام. شنّ حربه المدمرة على لبنان، ولم يستطع تحقيق أهدافه الأساسية. أغرق الولايات المتحدة بالديون، ودفعها إلى أزمة اقتصادية متصاعدة، لن يكون آخرها انفجار الفقاعة العقارية. أفقر الأكثرية الساحقة من الجماهير الأميركية لتمويل حروبه ولمصلحة حفنة من الشركات العملاقة المعولمة، ومصالح عدد ضئيل من أصحاب المليارات.
أثار الرأي العالمي ضد وحشيته وعدوانيته وتهديده للسلم العالمي. وفي هذه الأثناء، أفلتت معظم دول أميركا اللاتينية من قبضته، ونشهد اليوم تمرداً لبعض الأنظمة العربية على هيمنته، مثل تحركات المملكة العربية السعودية، السياسية والاقتصادية. وباءت تهديداته لكوريا الشمالية بالفشل الذريع، وتهديداته لإيران لم ترعب النظام الإيراني ولم تغيّر شيئاً من سياسته الداخلية والخارجية. كل هذه المتغيرات تنعكس على مجريات الصراع اللبناني، وتساهم في رسم مستقبل آخر للبنان، بعيداً من الاستتباع والهيمنة الغربية.
إن قوى المعارضة في لبنان لا تستطيع الاكتفاء بعرقلة الهجمة الإمبريالية الصهيونية عليه، وأن ترضى بإعادة تقاسم الحكم مع هذه الطبقة الحاكمة. فأي حل يمكن التوصل إليه الآن لن يكون أكثر من حل موقت، يمثّل في حقيقته هدنة موقتة، بغية استكمال تحولات المحيط وانكشاف الهزيمة الأميركية، وبغية إنضاج قوى التغيير في لبنان الكامنة في رحم قوى المعارضة والجماهير الشعبية ذات المصلحة في التغيير العابر للطوائف والمذاهب كافة.
إن قوى المعارضة لا تستطيع أن تكون فقط كابحاً لجنوح السلطة واندفاعاتها غير الاستقلالية وغير الوطنية، عبر امتلاك الثلث المعطل، بل على هذه القوى أن تطرح في أقرب وقت بديلاً كاملاً للحكم الحالي على جميع الصعد السياسية والاقتصادية والاجتماعية، كما على الصعد الثقافية والإعلامية والأخلاقية.
يبدو أن قوى المعارضة، التي تمثل فعلاً أكثرية شعبية، متهيّبة من تسلّم السلطة، وخائفة من الفشل في إدارة البلد وإنقاذه، في ظل الهجمة الإمبريالية الصهيونية الشاملة على المشرق العربي. فقد دفعت الطبقة الحاكمة لبنانَ إلى فخ المديونية ووضعته مالياً وسياسياً تحت سيطرة «إجماع واشنطن» الذي يحكم سيطرته على السياسات النقدية والمالية والاجتماعية، ويعمد بين حين وآخر إلى إعطاء جرعات مخدرة من المساعدات المشروطة، كما حدث في مؤتمرات باريس، تمنع النظام من الانهيار. وبالتالي، فإن الهجمة الإمبريالية الشاملة قادرة الآن على محاصرة أية حكومة وطنية ساعية إلى التغيير الضروري والمطلوب، إذا لم يكن لهذه الحكومة وعي مسبق وخطة واضحة لمجابهة مثل هذه المخاطر، وإذا لم تكن الجماهير اللبنانية واعية ومهيّأة لتحمّل أعباء التغيير المطلوب من أجل الإنقاذ.
من هنا حاجة قوى المعارضة إلى وضع برنامج إنقاذي، اقتصادي اجتماعي وسياسي، يحمل هموم الجماهير اللبنانية ويطرح حلولاً عقلانية وممكنة التحقيق. يعني ذلك صياغة برنامج واضح على هذه الصعد يمثل فعلاً مصالح الأكثرية الشعبية كما مصالح قطاعات الإنتاج كافة بشكل متوازن، وخاصة قطاعات الإنتاج الحقيقية، يمكّنها من استعادة النمو والمنافسة، وبالتالي من توفير فرص العمل الكافية لتقليص نطاقي البطالة والهجرة، ورفع مستوى معيشة الجماهير الضعيفة والمهمّشة. ذلك يستدعي تنادي قوى المعارضة إلى تأليف حلقة دراسية أو أكثر تضم مجموعة من الاقتصاديين الممثلين لقوى المعارضة، وآخرين مستقلين أيضاً، لصياغة مثل هذا البرنامج وطرحه لنقاش علني واسع.
إن طرح مثل هذا البرنامج يساعد على انتشال قوى شعبية عديدة من أسر الغرائزية الطائفية والمذهبية، ويعقلن ولاءاتها ويعيد اصطفافها وراء مصالحها الحقيقية ووراء القيادات التي تمثّل مصالحها وطموحاتها، وتعمل لحل مشاكلها، وعلى بناء دولة وطنية عادلة ونظيفة تحقق الأمن الشامل لجميع اللبنانيين وتضعهم على طريق التقدم واللحاق بالعصر.
* كاتب لبناني