نظام مارديني *
لم يسبق أن نشطت دبلوماسية التسوية، منذ سنوات، إلى هذا الحد كما هي عليه الآن عشية القمة العربية في دورتها التاسعة عشرة في الرياض. وعلى الرغم من أن القمة تعقد في خضم وضع إقليمي مثقل بالمشاكل غير المسبوقة في حدّتها وعمقها وعددها، فإن الجهود العربية لم تتوقف قبل القمة لدعم «مبادرة السلام العربية» التي أقرّتها قمة بيروت في عام 2002، وقد جاء إعلان «إسرائيل» عن استعدادها التجاوب مع هذه المبادرة كمن يبثّ السم في الجسد العربي الذي يعاني خللاً في وظائفه منذ الاحتلال الأميركي للعراق في 2003.
فمنذ سنوات تحولت القمم العربية إلى مناسبة ينتظرها الأميركيون والأوروبيون لإبلاغ القادة العرب بما يتعيّن عليهم عمله. فـ«إسرائيل» تريد منهم تعديل بعض بنود «المبادرة العربية للسلام»، وأميركا تطالبهم بموقف أكثر تشدداً من إيران، والاتحاد الأوروبي يحثّهم على إقناع حماس بالاعتراف بـ«إسرائيل». وفي الغالب تأتي هذه الطلبات من خلال بيانات دبلوماسية منمّقة تتمنى على القادة العرب أن يأخذوا في الاعتبار هذا التوجّه أو تلك السياسة، ولكن ما هي الطريقة التي على العرب اتخاذها لتنفيذ الطلب الدولي؟... الإجابة عند «العرب المعتدلين»!
إلا أن حجم وكثافة التحرك الأميركي و«الإسرائيلي» والأوروبي بشأن القمة الجديدة تجاوز المألوف لدرجة أنه غطّى على الاتصالات والمشاورات العربية ـــ العربية، وجعلها في كثير من الأحيان مجرد ردّ فعل ليس إلّا.
وقد كان لافتاً إعطاء واشنطن الضوء لإسرائيل لإعادة إحياء المبادرة العربية، وهو ما أكدته وزيرة الخارجية الإسرائيلية تسيبي ليفني من واشنطن خلال زيارتها للولايات المتحدة أخيراً، من أن المبادرة السعودية تتضمن عناصر إيجابية لكن بعض بنودها الإضافية تناقض مبدأ الدولتين (في إشارة إلى حق عودة اللاجئين وحدود حزيران 1967)! وقد تعمدت ليفني استخدام كلمة المبادرة «السعودية» بدلاً من «العربية» علماً بأنها تعلم أن المبادرة لم تعد سعودية بعد أن تبنّتها قمة بيروت قبل خمس سنوات.
وتتويجاً لذلك، تأتي وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس إلى المنطقة قبل القمة لوضع اللمسات النهائية على الاستراتيجية الأميركية الجديدة في الشرق الأوسط التي تستهدف تهدئة الأوضاع على الساحتين الفلسطينية واللبنانية وإطلاق وهم «أمل» على صعيد عملية التسوية العربية ـــ «الإسرائيلية» في مقابل تعهد جناح المعتدلين العرب بموقف حاسم من إيران التي أصبحت في نظر واشنطن تمثّل «قمة الشرّ».
وبحسب التقارير الواردة من واشنطن وتل أبيب، فإن الرياض تخلّت عن دبلوماسية الكواليس وهي تتخذ الآن موقعاً مركزياً وتلعب دوراً علنياً ومباشراً في مواجهة النفوذ الإيراني من جهة، وفي العمل مع «محور الاعتدال» العربي من أجل التحضير لمشروع «سلام عربي» جديد تتم صياغته من مفردات «المبادرة العربية للسلام» مع إدخال بعض التعديلات التي يرضى بها الجانبان الأميركي و«الإسرائيلي». والمشروع مكوّن من ثلاثة وثلاثين بنداً مدرجة على جدول أعمال القمة، وهذا ما دفع الأميركيين والأوروبيين وبالتبعية العرب للحديث عن أجواء تفاؤل جديدة في المنطقة لا بدّ من استغلالها مع أن شيئاً لم يتغيّر على أرض الواقع يسمح بهذا التفاؤل.
ديفيد ماكوفسكي، مدير مشروع عملية سلام الشرق الأوسط في معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى (التابع لإيباك)، وهو عبارة عن تقويم «لمبادرة السلام العربية» التي أقرّتها قمة بيروت، كان قد أعدّ تقريراً يلقي الضوء (بمنظور «إسرائيلي») على المشكلة التي تواجهها الدولة العبرية في صنع التسوية مع الفلسطينيين والعرب الآخرين. وأبرز ما يلفت في تقرير ماكوفسكي إشارته الواضحة إلى أن «الظروف التي كانت سائدة في قمة بيروت قد تبدلت. وبات السعوديون أقل اهتماماً بحل مشكلة الصراع العربي «الإسرائيلي» وأكثر اهتماماً بمواجهة الخطر الإيراني». وطالب ماكوفسكي القمة العربية المقبلة بالتصدي لثلاث مشكلات تواجه «المبادرة العربية للسلام» وهي:
1ــ مشكلة اللاجئين، وضرورة تقديم التنازلات من جانب العرب حول حق العودة.
2ــ مشكلة الترتيبات المتعلقة بالأرض، وضرورة أن يوافق العرب على ترتيبات تتميز بالمرونة.
3ــ مشكلة الفيتو السوري، وضرورة أن لا يتم الربط بين التطبيع مع «إسرائيل» والانسحاب من كامل الأراضي العربية، بحيث يجب على العرب التطبيع من دون تقيد بالانسحاب من كامل الأراضي العربية.ولكن بما أنه لا يوجد ما يشير أو يدلّ على إمكان التوصل عبر المفاوضات مع إسرائيل إلى أي تسوية تستند إلى قرارات الشرعية الدولية، فإن ما تطرحه الإدارة الأميركية وإسرائيل هو عبارة عن أضاليل. لذا ينبغي التمسك بالحقوق العربية، وفرض الحضور العربي في المحافل والمؤسسات الدولية، وهو ما من شأنه أن يفوّت الفرصة للقفز عن الحقوق الفلسطينية والعربية.
إن الموقف العربي في مؤتمر القمة يجب أن يكون واضحاً في دعم القضايا العربية، على الرغم من أن العجز لدى بعض المهرولين العرب تجاه «إسرائيل» حقيقة تعبّر عن نفسها في كل مواجهة، حتى لو لبست مواقفهم لبوس الحقوق حيناً، أو الحكمة السياسية حيناً آخر، أو الانفتاح على الآخر وفق أسلوب حضاري، وغير ذلك من الأشكال، وهذا التعبير الانبطاحي لازم القضية الفلسطينية وما زال، ويبدو أن استمرار الحديث واجترار الجمل حول هذا العجز لن يؤدي إلا إلى إعادة إنتاج هذا العجز. فالتغيير يحتاج إلى مولد ونموذج باعث للحركة، وفي نموذج الصمود العربي سواء على أرض المعركة، أو في النفسية والإرادة العربية ما يمكن أن يقدّم معطيات واعدة لإعادة صياغة الموقف العربي الشعبي نحو استنهاض الشعوب العربية في مشروع شامل لمواجهة التحديات التي يفرضها عليها التحالف الأميركي ـــ الصهيوني في المنطقة.
* كاتب سوري