خليل أحمد خليل *
شكّل الإعدام أو الاغتيال السياسي ظاهرة في مندرجات المسألة اللبنانية، تنمّ عن انعطاف في مجرى العلاقة التناقضية بين العدالة والسياسة. هذه الظاهرة الانعطافية، الانشراخية بذاتها، لم تحظَ بما تستحق من اعتناء علمي انتقادي، سواء بدعوى أن «المقتول بتروح عليه ــ أو بجلده» أو بدعوى أن «القاتل مبشّر بالقتل ولو بعد حين». إلّا أنّ مواقع المغدورين بالسياسة، حين لا تتطابق مع مطالب العدل ــ أساس الحكم ــ إنما تخدم مواقف القاتلين لأغراض سياسية، بصرف النظر عمّا يتوسّلون من شعارات أو شعائر اتهامية، تراوح بين تخوين وتكفير، لهما معانٍ فلسفية (أخلاقية التعارف أو التفاكر) وإنسانية (سياسة التسامح والاعتراف بالآخر المختلف أو المخالف)، معاكسة تماماً لما تذهب إليه إيديولوجيات تسويغ «حق القتل السياسي». ولئن كان القاتل يُسوِّغ في لاوعيه حق نسيان جريمته أو جرائمه، فإن جماعة المقتول لا تستسيغ مثل هذا الحق، فتصرّ على حقها في استذكار مكان الجريمة وزمانها ومعانيها وتداعياتها.
ـ I ـ
* تعود بنا الذاكرة إلى عام 1949، حين شهد لبنان والعالم العربي سلسلة اغتيالات سياسية، أبرزها: اغتيالات الصهاينة لقادة فلسطينيين ولجماعات مدنية، توّجت باغتيال الوسيط الدولي الكونت برنادوت، وإعدامات أو اغتيالات ثلاثة مؤسسين لأحزاب سياسية كبرى في مصر ولبنان والعراق: حسن البنّا (حزب الإخوان المسلمين)، أنطون سعادة (الحزب السوري القومي الاجتماعي) والرفيق فهد (الحزب الشيوعي العراقي). أما المسرح السياسي اللبناني للاغتيالات فقد تواصلت عروضه، فكان أبرزها اغتيال رياض الصلح (عمّان، 1951) رداً على إعدام الزعيم أ. سعادة. ثم توالت اغتيالات سياسية في بيروت طاولت صحافيين (أبو الحن، نسيب المتني) ومهّدت لأحداث 1957 ــ 1958، وطاولت أيضاً فرج الله الحلو، أبرز قادة الشيوعيين العرب، ثم الصحافي الكبير كامل مروة. ثم هدأت عاصفة الاغتيالات السياسية حتى 1975، حين بدأت الحرب على لبنان باغتيال المناضل معروف سعد، في أثناء تظاهرة الصيادين الفقراء الرافضين لشركة بترومين التي أنشأها الرئيس السابق كميل شمعون الذي تعرض بدوره، قبلئذ، لمحاولة اغتيال فاشلة. وربما لن يستذكر المؤرخون الحَدَثيّون الاغتيالات الصغيرة لمواطنين كثيرين، تصحّ عليهم وفيهم حالة المجازر والمذابح الجماعية، وحتى حالة «التهجير» هي بنظرنا اغتيال جماعي، بقدر ما هو طرد من المكان. ومع ذلك، لا بد لهم من التساؤل عن الرابط الحدثي ما بين اغتيال كمال جنبلاط (1977) واغتيال رفيق الحريري (2005)، مروراً بسلسلة اغتيالات سياسية ودينية طويلة جداً: الوزير طوني سليمان فرنجية وعائلته (1978) وفي العام نفسه تغييب (= قتل أو اغتيال) الإمام موسى الصدر، ثم اغتيال أول رئيس جمهورية منتخب في ظل الاحتلال الإسرائيلي (بشير الجميّل وصحبه)، والمفتي الشيخ حسن خالد، والوزير/النائب ناظم القادري، ثم اغتيال ثاني رئيس حكومة رشيد كرامي، فاغتيال ثاني رئيس جمهورية (رينيه معوّض 1989)، ناهيك عن اغتيال العشرات من الصحافيين والأجانب والكوادر العلمية والثقافية، وعن الاغتيالات الاسرائيلية وغير الاسرائيلية للمئات من المناضلين العرب، اللبنانيين والفلسطينيين.
والحال، فإن الاغتيال رافق السياسة اللبنانية على اختلاف مراحلها وتطورها، فكان بذلك تعبيراً عن حالة عنف عامة في لبنان ومحيطه العربي و«الإسرائيلي»، وكان في الوقت نفسه حذفوراً من حذافير الحرب الأهلية، الدينية والسياسية معاً. فالأصولية الصهيونية التي مأسست الاغتيال في فلسطين ومحيطها، أقامت «دولتها» على إرهاب مبرمج ومتواصل. وكانت الردود عليها من العيار نفسه، وغالباً دونه، لكن في سياق حركات مقاومة وتحرير وطني. قبل اغتيال الرئيس السابق رفيق الحريري، جرى فجأة اغتيال الوزير السابق إيلي حبيقة، في سياق تحقيق دولي حول مجازر صبرا وشاتيلا، واتهام أرييل شارون وعملائه المحليين بارتكابها. وشهد لبنان هدوءاً عابراً لعاصفة الاغتيالات منذ تحرير التراب الوطني اللبناني عام 2000، ولكن من دون تغيير استراتيجية إسرائيل والحلف الأطلسي تجاه لبنان وسوريا بنحو خاص: الحرب الدائمة. في هذا الســــــــــياق، لا بدّ للمؤرخ السياسي العلمي ألّا يستبعد الدور الإسرائيلي والأطلسي في الاغتيالات السياسية التي طاولت مجاهدي حـــــزب الله كما طاولت سواهم. فهل لهذه الاغـــــــتيالات من مــــــــعنى؟ وهل لتداعياتها من وظـــــــــــيفة مركزية؟
ـ II ـ
* في التحليل التقاطعي أو التضايفي، تظهر لنا شبكة اغتيالات مترابطة، عنوانها المشترك في فلسطين (اغتيالات كوادر حركة حماس وفتح وسواهما، وعلى رأسهم الشيخ أحمد ياسين والرنتيسي، بعد الشقاقي وعرفات)، والعراق ولبنان: الحرب الدائمة على المقاومات العربية بكل تلاوينها. في المقابل لم تقم جامعة الدول العربية، مثلاً، باحتضان هذه المقاومات الثلاث بوصفها حركات تحرير وطني، ولم يبقَ في الميدان سوى حدَيْدان: طهران ودمشق. أمام هذا المشهد، لا نجد معنى آخر للاغتيالات السياسية في لبنان سوى «التعبئة» القذرة لحرب أهلية. وربما لأن هذه الحرب لم تقع، رغم الإرباك الذي ساد الوضع اللبناني غداة الانسحاب العسكري السوري القسري، تقرر أميركياً، بل أطلسياً وإسرائيلياً، شن حرب 12 تموز 2006 ــ تماماً مثلما يجري التحضير حالياً لعدوان أميركي ــ إسرائيلي على لبنان وسوريا وإيران. وبقدر ما فشل المشروع الأميركي ــ الإسرائيلي في تكوين بؤر حروب أهلية (حماس وفتح في فلسطين، السنّة والشيعة في العراق، المقاومة واللامقاومة في لبنان) صار للاغتيال السياسي وظيفة جديدة: التحضير لحرب شاملة، قد تفتح مجدداً «قروح» الحرب الأهلية ــ الدينية في هذه المنطقة وبأفق حرب عالمية هذه المرة. إن الفشل السياسي لأية مؤسسة عسكرية يجعلها تسعى الى مزيد من الاغتيال السياسي لعلّه يعوّض عن إخفاقات سابقة أو يبشّر بنجاحات لاحقة. في إطار هذا الرهان، تتغيّر إذاً ديكورات الاغتيال السياسي ولكن الآلة الجهنمية للقتل السياسي لا تتغير.
ما حدث حتى الآن هو البحث عن «حقيقة» يفترض بتحقيق دولي أن يظهرها، لا بداعي العدالة ربّما، بل بداعي الاتهام السياسي ومقاضاة أنظمة بعينها، ممانعة لسياسات أميركا وإسرائيل وحلفائهما وعملائهما في هذه المنطقة الهلالية الخصبة والمخضّبة بالدم السياسي. وفي فلسفة التحقّق، الذاتي والموضوعي، لا يخفى أن الحقيقة السياسية هي ما يتحقق في الواقع. فماذا تحقق لتاريخه سوى افتئات سياسي على أنظمة وحركات تحرير وطنية، عربية وإسلامية؟ هذا هو المحك إذاً لمبدأ الحقيقة وما ينجم منها من عدالة أو لاعدالة. أما عبرة الاغتيالات السياسية في لبنان ومحيطه فنجدها في أن «المجتمع الدولي» ــ إذا وُجد ــ لم يتحرك مرة واحدة، لا لإحقاق حقيقة، ولا لترجمتها في عدالة ما. وها نحن، بعد مرور سنتين من كوميديا «التحقيق الدولي»، نرى المكلّف اللبناني يدفع من ماله تكاليف تحقيق كان يمكن قضاءً لبنانياً أو لبنانياً عربياً أن يقوم به، وفوق ذلك يدفع باهظاً ثمن أزمة سياسية، مرشحة للتحول إلى أزمة عربية عامة. ولئن كان التشاكل الإيراني ــ العربي يخفّف آنياً من حدة أزمة التحقيق، فإن التداخل الأميركي ــ الإسرائيلي يحول بدوره دون إفضاء التحقيق إلى «حقيقة ما». وتالياً ما معنى أن تُضاعف أزمة «تحقيق» بأزمة «محكمة»؟ إنه الفخّ الكبير الذي يُراد منه أخذ المنطقة بأسرها إلى هاويات «إمبراطورية الفوضى» الأميركية. والذاهبون إلى الهاويات هذه يتوسّلون الدواليب لسيارتهم الفارطة، ويخشون من كابح حقيقي تقدّمه المعارضة الوطنية لوقف التدهور. فالهرب من تحقيق مبهم إلى محكمة سياسية لمنطقة تفجيرية، سيعني عاجلاً أو آجلاً شيئاً وحيداً: إنشاء محكمة وهمية لحروب مكشوفة، وإبقاء المحاكمة على اغتيالات سياسية، في ذمة المحقّقين أنفسهم، وتوسّل المحاكمة لإعلان حرب، لا لإحقاق عدالة.
إن الاغتيال السياسي مدان كلياً وعالمياً. لكن من تجاسر حتى الآن على فضح نفسه في هذه اللعبة القذرة؟ حتى الآن قدمت أميركا أنموذج حل «مشكلة لوكوربي»، كما هو معلوم، وفي الوقت نفسه تجنّبت الخوض في «اغتيال» الإمام موسى الصدر ورفيقيه. فهل نحن أمام «لوكوربي» لبنانية في قضية الحريري؟ أم نحن بصدد صفقة، بل صفقات، عنوانها: المقامرة بدماء الآخرين؟ الثابت هو أننا قد نكون قريباً أمام «محكمة» ذات طابع دولي، ولكننا لا نعرف إن كنّا سنشهد محاكمة أم حرباً.
* كاتب لبناني