ناصيف قزّي *
(رسالة الى الرفاق في التيار الوطني الحر .. وكل الآخرين)
هي مسيرة طويلة وشاقة، تلك التي حملتني إليكم... فأنا لم آتِ من مياه الخراطيم التي طاولتكم في صيف عام 2001، ولا من عذابات السجون التي أُعِدَّت لكم، فخَدَشَتْ عنفوانكم والإباء... ولا حتى من خيمتي التي نصبتُها يوماً أمام «بيت الشعب» في بعبدا، عندما كان المصطفى يبشِّر بالفصح الجديد، والتي تعَمْلَقْتُ بها، مع رفاق المعاناة، على التهجير ومآسيه. أنا لم آتِ إليكم من ملاحم البطولة في سوق الغرب، ولا حتى من ضباب المنفى الباريسي الذي لم أعرفه إلا لبضعة أشهر، ولا من تواريخ جديدة حجَزَتْها أحداث دامية، ذكرى لشهادات مجيدة في دفتر الوطن... بل أتيت من أعاصـير المعاناة التي عاشها شعبنا منذ أن كان فوق أرض لبنان، المعاناة التي أحملها في ذاكرتي، كما الكـــــــــــثيرون منكم، وشماً لا يُمحى.
أنا آتٍ من مهد الحضارات ومهبط الديانات، وكلّ ما جاء بعد ذلك من دعوات ورسالات وعطاءات... آتٍ من عالم عظُمَت به الأرض وشعَّت أنواره على البشريَّة جمعاء، الى أن استحال تباعاً، وعلى مراحل، منذ أزمنة الفتوحات والحملات وما ألحقته بالإنسان من مظالم وهزائم وتفرقة، وما أعقب ذلك، في زماننا، من صراع عقائدي وارتهان فكري وتسيُّب سياسي، موطناً للعصبيّات والضغائن والأحقاد.
أنا آتٍ من جراح وأوجاع وآلام... آتٍ من دم ودموع وهجرة وتهجير... من معاناة، لا أبالغ إن قلت إنها من عمر الزمن. فحكايتي مع الحياة، أيها الرفاق، هي حكاية كل إنسان في هذا المشرق العظيم... حكاية تتقــــــاطعها أسطــــورة وحقيقة. أما الأسطورة فـــــــــــــــترقى الى صراع الآلهة، قبل قايين، الأخ القاتل، ومعــــــــــصية يونان النبي، وغيرهما ممن دُوِّنَت أســـــــــــــماؤهم في كتب البدايات والنهايات. وأما الحقــــــــــيقة فتكمن في كوني بشراً، نصفه أبكم، أقعدته التعاسة ومحدوديّة الإدراك، كما كل الذين أتوا... والذين سيأتون. والفارق الوحيد بيني وبينهم هو أني أروي الحكاية، كلما دارت الأيام دورتـــــــــــها واستفاقت الأوثان من سباتها الأبدي لتحطِّم لوح الوصايا. حكايتي هي حكاية الزمن المفقود على حافة هذا المشرق... الزمن الذي مزّقته الصراعات كما تمزِّق الكواسر فرائسها.
وفي دورها الأخير، ترقى مسيرتي، أيها الرفاق، الى طفولة لم تعِ إلا بعد زمن، أنها كانت الفتنة عام 1958، وفتوّةٍ شهِدتْ، ولو بصورة مغبَّشة، ما جرى في حرب الأيام الستة عام 1967، قبل أن تعي مفاعيل الهزيمة تلك، إثر أحداث عام 1969 الدامية، التي بدأت في الأردن، لتنتقل الى لبنان فيصير، فجأة، في اللهب.
فمنذ ذلك التاريخ، منذ الثالث والعشرين من نيسان عام 1969، تاريخ الشرارة الأولى التي وضعت الجيش اللبناني في مواجهة الفصائل الفلسطينيَّة المسلَّحة، بدأت تساورني الظنون من دون أن أدرك يومذاك أنَّ زمن النكبات والأهوال قادم، وأنَّ الوطن في مهبّ الريح.
وكانت حروبنا العبثية تدور، تارة مع الفلسطينيين وطوراً مع السوريين، وأغلب الأحيان في ما بيننا، حتى رسمت بأجسادنا دويلات لا أمل لها في الحياة... وهل ننسى الأكاذيب المدوّية وكلّ الشعارات؟ وقد جاء ذلك بعد زمن التحريض والتهميش والعزْل وطلب المشاركة، الى أنْ اكتمل المشهد الخلفي على مسرح الوطن من مخيمات التدريب الى السباق على التسلّح والقتل على الهويّة وما الى ذلك... بالإضافة الى وعود القناصل بالبواخر والتأشيرات... وشتى العروضات. وما أشبه اليوم بالأمس...!؟
وفي غمرة ما جرى من اقتتال أهلي تحت ألف ذريعة وشعار، كنت أمشي مع رفاق لي عكس التيّار. مشيت عكس الحرب ونظامها وأربابها... وعانيت ما عانيت... وكدت أفقد الأمل في كل شيء، بخاصّةٍ بعدما اجتاحت اسرائيل لبنان عام 1982، فأُخرجت «منظمة التحرير الفلسطينية» من بيروت ليظهر في الداخل أكثر فأكثر التعامل والارتهان من هنا وهناك. وهذا ما عمّق عندي انعدام الثقة بالساسة اللبنانيين... أنا الذي طالما اعتبرتُ، وما زلتُ، أنَّ من شارك في صناعة الحرب منهم لا يمكنه أن يكون صانع سلام، حتى إني فقدت الأمل يومها بالجيش المنقسم على نفسه، مثلما تزعزعت ثقــــــــتي بالمرجعيّات العربيَّة وقوات ردعها، والقوى الدوليَّة كافة وأساطيلها، وبكل ما أنتجته ثورات ما سمي «العالم الحر»، من مواثيق وشرائع، والتي باتت بمعظمها رهينة ازدواجيَّة المعايير ومصالح الدول الكبرى، ليسود العالم من جديد منطق القوة... قلْ شريعة الغاب. وهكذا ارتفع في وجداني حائط اليأس وسُدَّتْ في وجهي كل مخارج الحلول... ناهيك عما تركته «حرب الجبل» من ألم في نفسي وجراح...!؟ وقد عانيت من مآسي التهجير، ككل أبناء الجبل، ولا سيما المسيحيون منهم، ما لم تعانِه قبائل الهوتو والتوتسي في إفريقيا من مظالم، حتى إن جيش هولاكو وكل سفاحي التاريخ لم يرتكبوا ما ارتكبته بعض الجماعات اللبنانية من جرائم وحماقات.
وأنا في هذا المِرجَلِ أَغلي، وقد جَرَشَتْ طاحونة الحروب كلَّ الآمال، سمعت صوتاً صارخاً في البرية أن «أعدّوا طريق الوطن»...
كان ذلك عام 1984 عندما التقطت أولى تلك الإشارات، وكان الوطن في أتون «الحرب الأهليَّة»، يتأرجح بين «إدارات مدنيَّة» هنا و«مجالس حربيَّة» هناك، وتتناتش قراره الوطني «قوات شقيقة» وجيوش احتلال. وكلُّ ذلك كان على مرأى من سفن الدول العظمى الحربيَّة «وفرقاطاتها» وحاملات طائراتها وقذائفها الصوتيَّة العملاقة. التقطت تلك الإشارات قبل أن يتردد في الصحف وعلى الألسن «أمر اليوم» وأن «الجيش هو الحل». وتكرر نداء القائد، وعلى امتداد سنوات عدة، وبقي عنوانه: نعم للبنان القوي، السيد، الحر والمستقل. فكان بالنسبة إليَّ، والحقُّ يقال، كما الصوت الذي أنقذني من ناموس التراب.
عاد الأمل الى نفسي وتعمَّق أكثر فأكثر بعدما وصل ذلك القائد الذي ذاع صيته آنذاك، والذي حلمت به منقذاً، الى سُدَّة المسؤوليَّة، فصار قائداً لمسيرة إنقاذ الوطن من جلاّديه... وبعض جلادي ذلك الزمن، زمن الوصاية والفتن والاحتلال، هم أنفسهم أدعياءُ إنقاذه اليومَ والمتسلّطون على القرار السياسي فيه.
فمنذ ذلك التاريخ، أيها الرفاق، منذ عام 1988 وأنا أشهد للجنرال عون الذي لو كان لي أن أقول فيه قولاً بسيطاً، لقلت إنه أدخلني فرح الرجاء يوم كان اليأس هو العنوان.
واليوم، أراني أكثر تشبّثاً بقناعاتي من ذي قبل. ومهما قيل ويقال عن الرجل على لسان بعض الضالّين والمضلِّلين، ومهما ساق بعض صغار الساسة وأبواقهم الإعلاميَّة من شائعات واهية واتّهامات باطلة، فأنا على يقين، وحقيقة الأمر كذلك، بأنَّ في أبجديَّة الجنرال ليست هناك حروف ضائعة: فمسيرته النضاليَّة الوطنيَّة الجامعة كانت، وما زالت، متماسكةً ومتناغمة قولاً وممارسة، ومبادئه في السيادة والحريَّة والاستقلال ثابتة، ورؤيته السياسيَّة الإصلاحيَّة متقدمة، ومناقبيته هي هي لجهة الصدق والوفاء والشفافية. ناهيك عن أنَّ علاقاته الداخليَّة يحدّدها منطق الشراكة الفعليَّة، وعلاقاته الخارجيَّة مبدأُ النديَّة ومصلحة الوطن وعزَّةُ بنيه.
لن أسوق لكم اليوم سوى علامات ثلاث عَنوَنَتْ الـ2006، لتجعل من الجنرال عون سياسياً رؤيوياً قلّ مثيله في وطن تتآكله الأنانيَّة، والمصالح الفئويَّة والطائفية، والرغبة في التسلّط:
أولاً، أَلَمْ يُرسِ في تفاهم السادس من شباط، مع السيد حسن نصر الله، الإطار الحقيقي للعلاقات التاريخيَّة بين اللبنانيين، على طريق إعادة بناء أواصر الصداقة في ما بينهم؟ ألم يكن التفاهم هذا من منطلق وطني، لوأد الفتنة وإعادة جمع شمل اللبنانيين في شراكـــة متعادلة بعد أزمنة النكبات، وترسيم علاقات صحيحة وشفافة مع الأشقاء والأصدقاء، ولا ســــيما سوريا والفلسطينيين؟
ثانياً، وبعيْد الحرب الإسرائيليَّة على لبنان، أَلَمْ يُثبت الجنرال عون أنه يقرن قوله بالعمل، وأنه، الى كونه مسيحياً بامتياز، فهو زعيم وطني قلَّ مثيلُه في زمن الشدائد والملمّات؟ وبهذا، ألا يكون قد أعاد، بالإضافة الى إسهامه في إعادة الخطاب السياسي الى تعقّله، المسيحيين الى موقعهم الطبيعي في هذه المنطقة العربيَّة، بعدما دفعت بهم سياساتُ بعض قادتهم، خلال العقود الماضية، الى إثارة خطاب تخويني ضدّهم؟ ألم يُخرج الجنرال المسيحيين من زجاجة «العمالة» التي زجَّهم فيها بعض التافهين وقصيري النظر؟ ألا يتقاطع هذا الموقف الواضح مع روحية النصوص الكنسيَّة، التي يتجاهلها بعض أحبار الكنيسة، من المجمع الفاتيكاني الثاني الى المجمع الماروني الأخير مروراً بالإرشاد الرسولي والتعاليم ورسائل البابوات؟
ثالثاً، ألَمْ تتوِّج انتفاضة الأول من كانون الأول الشعبيَّة العارمة، التي دعا إليها الجنرال عون مع زعماء المعارضة الوطنيَّة، كلّ ما طالب به حتى الآن، وما حذّر منه طوال الفترة الفائتة، وخاصة منذ حرب تموز العدوانيَّة؟ ألمْ يُثبت هذا التحرك صوابيّة طروحاته التي كان قد أعلنها في خطابه ــ البيان في الخامس عشر من تشرين الأول الماضي أمام أكبر حشد بُرتقالي تحدّى الأعاصير يومذاك، والتي تقوم عـــــــــلى مبدأ الشراكة، سعياً الى «تأسيس سلطة وطنيَّة قائمة على تمثيل صحيح»، داعياً الجميع الى «عدم المكابرة والرفض»؟ ألمْ يُثبت تحرك المعارضة إفلاس أهل السلطة وبؤسهم بعدما انكشف أمرهم للملأ حيال معالجة القضايا الوطنيَّة بالتفرُّد والاستقواء بالخارج، ليلجؤوا الى تأجيج العصبيات المذهبيَّة والفئويَّة؟
وإذا كان بعض الساسة يعمد الى تشويه حقيقة الأمور عبر قلب المعادلات وسَوْق التهم كيفما كان، فالحق يقال أن خجلاً كينونياً ينتابهم... خجل من ماض ما كانوا فيه أنقياء، ولا هم دخلوا هيكل التوبة بعد مجون، لذا يلجؤون الى خُطب سياسيَّة موتورة لا تنطلي على أحد.
وما أخشاه، بعد اللامبالاة القاتلة والتعنّت الفاجر الذي يجابه به أهل السلطة الشعب الأبيّ المعتصم في ساحات بيروت في أرقى صورة حضارية عرفها لبنان منذ تكوينه، هو أن يكون حدسي البسيط أصدق إنباء من كل التكهنات والتخيلات والتحليلات. فما زلت أخاف منهم... أخاف من المهمّات التي توكل إليهم في كل دور من أدوار التآمر على لبنان. أخاف من ساسة الزمن الرديء... كما أخاف من كنيسة هجرتها الروح يوم لم تعد للفقراء والودعاء والمساكين.
فالرسالة الرسالة، أيها الرفاق، هي أن ما كنا بدأناه، مع الجنرال عون قد اكتمل اليومَ بعدما أصبحنا، مع إخوة لنا في المــــــــــواطنيّة، شركاء في النضال من أجل لبنان الوطن والإنسان. فهذه هي بداية تحقيق الحلم، باستعادة الوطن وإعادة تأسيس الدولة العصرية بعيداً من كل أشكال الإقطاع الطائــــــــــــفي والمذهبي والمالي... وحتى الديني المتحالف مع أي منها. الرسالة الرسالة، أيها الرفاق في التيّار الوطني الحرّ، هي أننا بتنا في عالم ترتسم فيه «النحن» وسع الوطن، لتستحيل «الأنا» التي تكبّلنا، والتي أقعدتنا طوال عقود، حالة دونيَّة لا مكان لها في حركة التاريخ.
إنَّ التواريخ المدوّية التي حملها إلينا عام 2006 في مسيرتنا الوطنية، من السادس من شباط الى الأول من كانون الأول مروراً بالثاني عشر من تموز، إن هذه التواريخ هي، بالنسبة إلينا، كما التبدلات المناخية في علوم الأرض، التي لا بد من أن ينشأ منها تغيرات أساسيَّة في المسار الكوني.
ثقوا أيها الرفاق بأن لبنان كان منذ أن كان التاريخ، وقبل أن تحتشد الأديان مذاهبَ واتجاهاتٍ، وقبل أنْ يتفرَّق الناس أحزاباً وجماعات، شاء ذلك العثمانيون الجدد وباشاواتهم أم أبوا. وهذا اللبنان، لبنان يوحنا مارون، والإمام الأوزاعي، والأئمة العامليين، وفخر الدين، هذا اللبنان هو الذي يستفيق فينا من جيل الى جيل. إنه المعنى الأبهى الذي يجمعنا، والذي في إمكانه أن يكون مثالاً للإنسانيَّة جمعاء. هذا اللبنان هو الردّ الطبيعي على كل أشكال العنصرية والأصوليَّة والنزعات الأحادية، وفي مقدمها الصهيونية المتغطرسة والمغتصبة. فالمسألة في بُعدها الأساسي هي كيانيَّة بامتياز، فلا يمكن أن نحصرها بتغيير حكومي أو بمحكمة ذات طابع دولي.
إن لغة الجنرال عون، وكل الصادقين، في مسيرة إعادة بناء لبنان، هي اللغة التي يجب أن نفتح آذاننا لسماعها والعمل بموجبها، لأنها لغة الحق، لغة النور، لغة الوضوح والتميّز... إنها قَبَس من المعنى الذي للحياة. وهل بغير تلك اللغة يمكننا أن نتوجّه الى أهل الكهف، أولئك الذين لا يرون من الحقيقة إلا الظلال؟
* أستاذ الفلسفة في الجامعة اللبنانيَّة