داود خير الله *
  • صاحب المعالي

  • أكتب إليك لأنك وزيراً للعدل، ومن دون سائر الوزراء الآخرين، تتحمّل مسؤولية استثنائية في شأن المحكمة الخاصة ذات الطابع الدولي المزمع إنشاؤها. فكل تغافل عن خطأ أو تساهل في شأن حقّ سيادي أو واجب دستوري في تكوين المحكمة الخاصة أو كيفية ممارستها عملها يمكن أن يكون له أسوأ الأثر في السيادة الوطنية، فضلاً عن أثره في الاستقرار والسلم الأهلي.
    وأكتب إليك لاعتقادي، كما أصدقاء مشتركون، بأنّك تتمتّع باستقلال معنوي ولا تزال تشعر بالانتماء الى المدرسة الشهابية وربما ببعض المسؤولية كمؤتمن على رصيدها في النزاهة والحرص على المصلحة الوطنية. ويدفعني للكتابة إليك اعتقاد بأنّك لا تحمل أعباء خاصة كالرغبة في الثأر لضرر أُنزل بك أو بحبيب أو قريب وتحسب أن المحكمة الخاصة ذات الطابع الدولي، مهما كان شكلها وطريقة عملها، هي الوسيلة الأكثر ملاءمة للاقتصاص من الفاعلين.
    وكذلك أكتب إليك لاعتقادي بأنّك غير مرتهن بإملاءات ومصالح خارجية، عربية كانت أو أجنبية، وأنه ليس في تاريخك السياسي، أقلّه حتى تولّيك هذه الوزارة، ما يدفع للاعتقاد بأنّك تنصاع لرياح المصالح الخاصة. وأخيراً أكتب إليك لاعتقادي بأنك لست «خرفوشة» قذفت بك رياح الصدف لكي تملأ كرسيّاً وزاريّاً في هذه الحكومة. فأنت خير من يعلم، نظريّاً وعملياً، مسؤولية العاملين في الشأن العام والمؤتمنين على المصلحة الوطنية، وخاصة عندما يتعرّض الوطن لمحنة كالتي تنتاب لبنان حالياً. لكلّ ما تقدّم أكتب لألفتك الى مخاطر المحكمة الخاصة ذات الطابع الدولي اذا ما أُقرّت في شكلها الحالي.
    بداية، إنّ القبول بإنشاء المحكمة الخاصة ذات الطابع الدولي في ضوء ما جاء في مشروع نظامها الأساسي، ينطوي على انتقاص من السيادة الوطنية مهما كانت المبررات لهذا القبول. فالسيادة في وجهها الكامل هي استئثار في الحكم الذاتي. وأهمّ مظاهر السيادة هو أن تتولّى الدولة ممارسة جميع حقوقها ومسؤولية تطبيق القانون في كل الجرائم التي ترتكب على أرضها. من الصعب جدّاً، يا صاحب المعالي، تصوّر دولة تتمتع بسيادة تامة تقبل بالتنازل عن حقّها في أن تقوم أجهزتها وموظّفوها بتطبيق قوانينها على كل أراضيها بما في ذلك محاكمة وعقاب كل من يخالف هذه القوانين.
    المبرر الوحيد للتنازل عن أي جزء من السيادة الوطنية، اذا كان هناك من مبرر، هو بلوغ عدالة لا يمكن بلوغها في حدود ما هو متوافر للدولة اللبنانية من إمكانيات لإقامة محاكمة عادلة لكلّ من توجّه إليهم التهم نتيجة التحقيق الذي تقوم به لجنة التحقيق الدولية والقضاء اللبناني في شأن اغتيال الرئيس الحريري. والتنبّه الشديد لعدم التفريط بحقوق سيادية وأحكام دستورية أمر في منتهى الأهمّية لكلّ حريص على المصلحة الوطنية بالنظر إلى ما لذلك من أخطار على المصلحة العامة ذات الأبعاد السياسية والأمنية، فضلاً عن الضرر المادي والمعنوي الذي يمكن أن يلحق بالوطنمعالي الوزير، إن جميع الصلاحيات التي يمكن أن تمنح للمحكمة يجب أن تبقى ضمن حدود ما هو ضروري لإقامة محاكمة عادلة، وكلّ ما تعدّى ذلك هو تفريط لا مبرر له بالسيادة والمصلحة الوطنية. ولا يجوز الادعاء أن المحكمة الخاصة بلبنان تشبه في بعض فقرات نظامها التأسيسي محاكم دولية أخرى، فالمحكمة الخاصة بلبنان تختلف عن كل ما سبقها من محاكم جنائية دولية، إن بالنسبة إلى الدوافع وراء إنشائها وإن بالنسبة إلى موضوع اختصاصها. فجميع المحاكم ذات الطابع الدولي، سوى المحكمة الخاصة بلبنان، أنشئت استجابة لضغط شعبي دولي لمحاسبة مسؤولين عن جرائم متمادية ضدّ القانون الدولي، كجرائم الحرب وجرائم الإبادة الجماعية والجرائم ضدّ الإنسانية. أمّا المحكمة الخاصة بلبنان فتقوم استجابة لمشيئة حكّام بعض الدول التي تتمتّع بنفوذ خاص في مجلس الأمن الدولي وبدافع مصالح خاصة للنظر في جريمة قتل ذات دوافع سياسية وصفت بالعمل الارهابي لكي يكون لمجلس الأمن اختصاص، علماً بأن ليس لجريمة الإرهاب تعريف متفق عليه دوليّاً ولم يسبق أن نظرت محكمة جنائية دولية في مثل هذه الجريمة.
    وإذا كان في لبنان، يا معالي الوزير، شبه إجماع شعبي ورسمي على أن تأخذ العدالة مجراها في شأن المسؤولين عن هذه الجريمة النكراء كمبرر لقيام المحكمة الدولية، فإنّه من الصعب القول إنّ بلوغ العدالة، لا مآرب سياسية أخرى، هو الدافع الأساسي وراء نشاط الدول الأكثر نفوذاً في مجلس الأمن الدولي التي لولا جهودها الحثيثة لما كان للمحكمة الخاصة ذات الطابع الدولي أن تنوجد.
    أيعقل، يا معالي الوزير، أن تكون العدالة واحترام القانون هما الدوافع الأساسية وراء جهود سلطات الدولة التي أقامت سجون أبو غريب وغوانتانامو وأنشأت محكمة عراقية خاصة ذات دوافع عرقية ومذهبية لمحاكمة صدّام حسين ورفاقه، بشكل أثار ولا يزال يثير استهجان وغضب جمعيات حقوق الإنسان في العالم، وخاصة ان التهم التي ساقتها الولايات المتحدة ضد صدّام وأدت إلى إعدامه تتعلّق بجرائم ضدّ القانون الدولي بامتياز؟ هذه السلطات عينها لا تزال ترفض التوقيع على المعاهدة المنشئة لمحكمة الجنايات الدولية وتتزعّم حملة التحريض على عدم توقيع تلك الاتفاقية.
    أكاد، يا معالي الوزير، أسمع حولك من يقول ان مجلس الأمن الدولي لا الولايات المتحدة هو من يقرر إقامة المحكمة الخاصة، وبالتالي هذه المؤسسة الدولية، التي باتت توصف بأنها مصدر «الشرعية الدولية»، تشكّل ضماناً لحيادية المحكمة ومهنيتها واستقلالها. حبّذا لو كان مثل هذا التصوّر يعكس واقعاً. إنّ مجلس الأمن الدولي، في كلّ ما يتخذ وينفّذ من قرارات، كان الى حدّ بعيد وقد أصبح بصورة قطعية بعد انتهاء الحرب الباردة، مطيّة لرغبات الدول المقتدرة وفي طليعتها الولايات المتحدة من دون أي احترام للقانون الدولي وخاصة بالنسبة إلى كلّ ما يتعلّق بالشأن اللبناني.
    ان مجلس الأمن الذي لا مبرر لوجوده، حسب ميثاق الأمم المتحدة، سوى الحفاظ على السلم العالمي ومنع استعمال القوّة لحلّ النزاعات بين الدول، وقف يشاهد تدمير لبنان من جانب آلة الدمار العسكرية الاسرائيلية مدّة ثلاثة وثلاثين يوماً تنفيذاً لرغبة السلطات الأميركية الحاكمة. ومجلس الأمن عينه عجز عن تنفيذ قراره الرقم 425 في ما يتعلّق بوقف العدوان والانسحاب الاسرائيلي من لبنان مدّة اثنتي وعشرين سنة، وذلك بسبب استعمال الولايات المتحدة المتكرر لحق الفيتو لمنع تنفيذ قرار «الشرعية الدولية».
    واقع الحال، يا معالي الوزير، ان مجلس الأمن أضحى وسيلة الدول المقتدرة لتأديب الدول الضعيفة وإدخالها بيت الطاعة بصورة تزيد ابتعاداً عن أحكام العدالة والقانون الدولي بقدر ما تولّد المظالم والاضطرابات الأمنية، فعسانا لا نكون عوامل مساعدة في هذا المضمار. الواجب المعنوي في طاعة الشرعية الدولية، كما كل القرارات الصادرة عن سلطة عامة، رهن بفرضية عدالتها. فعندما تصبح قرارات السلطات العامة وسائط ظلم، يصبح الواجب المعنوي لأحرار العالم هو في مقاومتها، ولا يغيّر من ذلك منطق القوّة الذي يفرض تطبيقها قهراً.
    أنا على يقين، يا معالي الوزير، أن إخضاع نظام المحكمة للتدقيق الذي توجبه أهميّة الموضوع من جانب ذوي الاختصاص، إن لجهة مطابقة نظام المحكمة لأحكام الدستور اللبناني وإن لجهة المصلحة الوطنية، سوف يظهر جوانب عدّة يجب علاجها ونصوصاً يجب تعديلها وسوف أقتصر في ما يلي على بعض مصادر القلق في مشروع نظام المحكمة الذي هو في معرض إقراره من السلطات الدستورية اللبنانية.
    ليس في مشروع نظام المحكمة الحالي ما يؤكّد أن المحكمة الخاصة لن تبدأ عملها قبل انتهاء لجنة التحقيق الدولية والقضاء اللبناني من التحقيق، لا بل على العكس من ذلك فإن نظام المحكمة الحالي ينصّ على أن دوائر المحكمة تتألّف من قاضي تحقيق ودائرة ابتدائية ودائرة استئناف، هذا إضافة الى المدّعي العام. ونظام المحكمة ينهي سيادة القضاء اللبناني بالنسبة إلى كلّ ما يتعلّق بالتحقيق الجاري ويفرض إحالة كل ما يتعلّق به من أدلّة وملفات على المدّعي العام للمحكمة الخاصة خلال مدّة لا تتجاوز الشهرين من تاريخ إنشائها. فسيادة القضاء اللبناني التي حفظها قرار مجلس الأمن الرقم 1595 المتعلق بتعيين لجنة التحقيق الدولية، من دون أن يؤثر ذلك إطلاقاً على استقلالية التحقيق أو على فعاليته، يجري الآن انتزاعها بموافقة المؤسسات الدستورية المؤتمنة على هذه السيادة.
    الخشية، يا معالي الوزير، أن يكون أي من المدّعي العام للمحكمة الخاصة أو قاضي التحقيق لديها، الذي لا سلطة للدولة اللبنانية في تعيين أو عزل أي منهما، يتمتّع بكفاءة القاضي ديتليف ميليس ونزاهته، الرئيس الأول للجنة التحقيق الدولية الذي خالف عامداً متعمّداً قانون أصول المحاكمات الجزائية اللبناني الملزم وأبسط قواعد التحقيق الجنائي بشكل مكّن أطرافاً خارجية وداخلية من استغلال ما كتب وصرّح به وسرّبه لتحقيق أهداف لا شأن لها بتحقيق العدالة. وليس أدلّ على ذلك مما جاء في تقارير رئيس لجنة التحقيق الحالي القاضي براميرتس وقد نصّ آخرها على «أن إعلان معلومات متعلّقة بالشهود والمشتبه فيهم مخالفة لمبادئ العدالة والإنصاف، وقد تضرّ بهدف أي إحالة تعرض أمام المحكمة وقد تكون مؤذية لها».
    وبالنظر إلى الصلاحيات المعطاة في مشروع نظام المحكمة للمدّعي العام وقاضي التحقيق، بما فيها قرارات التوقيف وكيفية جمع الأدلّة، فإن هذه الصلاحيات لأفراد لا تتوافر فيهم النزاهة والمهنية الواجبة والاستقلال عن كلّ تأثير سياسي ويعملون في منأى عن أيّة رقابة إدارية لمصدر قلق شديد. وليس هنا مجال إسهاب في مخاطر الخلط بين مرحلتي التحقيق والمحاكمة فلديك، يا معالي الوزير، من الكفاءات في وزارة العدل من باستطاعته شرح ذلك بجدارة.
    وما يقال عن المخاطر التي تتعلّق بمرحلة التحقيق ينسحب على معظم مواد نظام المحكمة التأسيسي. فاختصاص المحكمة الذي جاء في المادة الأولى من نظامها بصيغة يكتنفها الغموض والتعميم يمكّن المحكمة من النظر في أية جرائم مماثلة لجريمة اغتيال الرئيس الحريري ويترك للمحكمة الاستنساب في التماثل لجهة النية الجرمية أو الغرض أو طبيعة الضحايا المستهدفين أو طريقة الاعتداءات، وذلك ضمن مدّة زمنية يمكن أن تمتدّ الى أي وقت آخر يمكن أن تقرره الأطراف بموافقة مجلس الأمن. إنّ اختصاص المحكمة هذا يمكن أن يفتح الباب لتجريم أيّة أفعال يتّهم بها أشخاص يشكلون الآن أو في المستقبل خصوماً سياسيين لأطراف محلّية أو إقليمية أو خارجية.
    ثمّ إنّ هناك نصوصاً في مشروع نظام المحكمة بشكله الحالي تثير تساؤلات جدّية بالنسبة إلى انسجامها وأحكام الدستور اللبناني. فالمادة الرابعة من مشروع نظام المحكمة تفرض على السلطة القضائية اللبنانية التنازل للمحكمة الخاصة عن اختصاصها في أيّة قضيّة قيد النظر أمامها فور تسلّم هذه السلطة طلباً من المحكمة الخاصة. وبما أن السلطة القضائية هي إحدى السلطات الثلاث واختصاصها ومهمّاتها منصوص عليها في الدستور اللبناني، فهل باستطاعة السلطة التنفيذية أو أي سلطة أخرى أن تفرض على السلطة القضائية التنازل عن اختصاصها وصلاحياتها من دون تعديل للدستور؟
    وكذلك المادة الخامسة من مشروع نظام المحكمة بشكله الحالي تعطي المحكمة صلاحية محاكمة أي فرد سبق أن تمّت محاكمته أمام القضاء اللبناني أكان الحكم الذي صدر يقضي بعدم المسؤولية أو بعقوبة معيّنة، وذلك اذا قدّرت المحكمة الخاصة أن «إجراءات المحكمة الوطنية تفتقر الى الحياد والاستقلال... أو لم يكن الادعاء قد أدّى دوره بالعناية الواجبة». إنّ جميع النظم القانونية الراقية، بما فيها النظام اللبناني والفرنسي والأميركي، تحترم آثار القضية المحكمة وتحرّم محاكمة أي فرد عن فعل واحد مرّتين. فهل يعقل، يا معالي الوزير، أنّ مثل هذا النصّ، فضلاً عمّا يحمل من تحقير للقضاء اللبناني، قد وضع لإعادة محاكمة متهمين باغتيال الرئيس الحريري جرت محاكمتهم من جانب القضاء اللبناني؟ وفي السياق نفسه، لا تعترف المادة السادسة من مشروع نظام المحكمة الحالي بعفو خاص أو عام يمكن أن يكون قد صدر عن السلطة التنفيذية أو التشريعية (بموجب المادة 53 من الدستور)، علماً بأنّ كلّاً من السلطتين يتمتّع بسيادة دستورية خاصة به. فهل باستطاعة أيّة سلطة لبنانية، في إطار النصوص الدستورية الحالية، وعملاً بمبدأ فصل السلطات الذي يشكّل ركيزة أساسية في البنيان الدستوري اللبناني، أن تلزم لبنان بمعاهدة تلغي الاعتراف بالأحكام القضائية النهائية الصادرة عن القضاء اللبناني، أو الحقوق المكتسبة التي تترتّب على العفو العام أو الخاص، وتفرض على السلطة القضائية التنازل عن اختصاصها بالنظر في القضايا العالقة أمامها من دون تعديل للدستور؟
    ما يدعو الى الذهول، يا صاحب المعالي، هو صمت المجتمع الحقوقي في لبنان تجاه مسألة ذات أبعاد قانونية وأثر في الحياة العامة بهذا المقدار من الأهميّة. فإذا كان من الصعب على الجسم القضائي أن يعبّر عن قلق أو امتعاض تجاه المحكمة الخاصة بشكلها المطروح بسبب طبيعته وضرورة الحفاظ على استقلاله في ما ينطوي على اعتبارات ومضاعفات سياسية، فما عذر نقابات المحامين وكلّيات الحقوق لا تعبّر عن وعي لخطورة المحكمة بشكلها الحالي وعن حرص على احترام الدستور والسيادة والمصلحة الوطنية؟ أيعقل أن يكون الاصطفاف المذهبي والتمحور السياسي حول مصالح خارجية وهواجس وطموحات داخلية قد شلّت الفكر وأفقدت رجال القانون القدرة على إدراك مخاطر المحكمة الدولية بشكلها الحالي؟ هل يمكن عاقلاً أن يعتبر أن القوى الخارجية صاحبة القرار في كل ما يتعلّق بالمحكمة ذات الطابع الدولي، بما فيه تعيين قضاتها، تدفعها بصورة رئيسية الرغبة في معرفة الحقيقة وبلوغ العدالة مجراها في ما يتعلّق بمن هم وراء اغتيال الرئيس الحريري وسواه من قادة الرأي الذين سقطوا بسلاح الغدر؟
    الذين يتوقعون التجرّد وحسن النية في اختيار أكثرية قضاة المحكمة الخاصة من الأجانب، بمن فيهم المدّعي العام للمحكمة وقاضي التحقيق، ويتصوّرون أن اختيار هؤلاء سوف يخضع لمقاييس النزاهة والكفاءة والاستقلال عن كل تأثير سياسي، فما عليهم سوى النظر في توافر هذه الصفات في أداء كل من تيري رود لارسن وديتليف ميليس وأن يمعنوا النظر في تجرّد الذين يقدّمون المقترحات والأسماء للأمين العام للأمم المتحدة واستقلاليتهم.
    مهما اختلفت الأهداف والمواقف من سلاح المقاومة والمعادلات الاقليمية، فإن القبول بأن تكون المحكمة الخاصة هي إحدى وسائل الضغط لبلوغ تلك الأهداف لأمرٌ في منتهى الخطورة. ومن الواضح أنه ليست للدول الخارجية الأكثر نشاطاً ونفوذاً في إنشاء المحكمة الخاصة أهداف تفوق بأهميّتها نزع سلاح المقاومة وتصفية حسابات أو تغيير معادلات إقليمية. فإذا كان بالإمكان، يا معالي الوزير، فهم مواقف الدول الخارجية في توسّلها بالمحكمة الخاصة لبلوغ مآرب سياسية عندما نعلم أنه ليست لهذه المحكمة أية آثار في أنظمة تلك الدول وأمنها، فإنه من الصعب جدّاً تفهّم أن يشارك مسؤولون لبنانيون في أن يُستغلّ القضاء، الذي هو آخر مرجع لتحقيق العدالة، من خلال المحكمة الخاصة، لبلوغ أهداف لا ينال منها لبنان سوى الاضطراب الأمني وعدم الاستقرار.
    المحكمة الخاصة ذات الطابع الدولي يمكن إنشاؤها لا بل يجب أن تُقام لكن بهدف وحيد هو أن تبلغ العدالة مجراها في محاسبة المسؤولين عن اغتيال الرئيس الحريري ورفاقه ومن دون التعرّض لأمن لبنان واستقراره. وتحقيق ذلك يقتضي تجريد المحكمة الخاصة في تكوينها وطريقة عملها من كل إمكانية لاستغلالها لمآرب سياسية. يفرض ذلك أن ينحصر عمل المحكمة بمحاكمة عادلة لكل متّهم من جانب لجنة التحقيق الدولية، بعد انتهاء التحقيق في جريمة اغتيال الرئيس الحريري ورفاقه وإعلان نتائجه، وخاصة أن لجنة التحقيق الدولية تتمتع بصلاحيات وقدرات فنّية ومادية ربما لم تتوافر لسواها في التاريخ. ويمكن بلوغ كل ذلك من دون الإمعان في انتهاك السيادة الوطنية وتجاوز النصوص الدستورية وتسهيل التلاعب بأمن الوطن واستقراره.
    معالي الوزير، لن تقوم محكمة خاصة تنال من السيادة الوطنية وتهدد الأمن والاستقرار في لبنان سوى بموافقة، لا بل بتواطؤ المؤتمنين على هذه السيادة وهذا الاستقرار. فالتهويل بأن مجلس الأمن قد يلجأ لإقامة محكمة دولية بموجب البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة أمرٌ مستبعد تحقيقه، لا لأنّ هناك دولاً تتمتّع بحق الفيتو في مجلس الأمن قد تعارض ذلك، وهذا أمر محتمل جدّاً، بل لأنّ جميع المحاكم الجنائية الدولية التي أنشأها مجلس الأمن بموجب البند السابع كان موضوعها محاكمة مسؤولين عن جرائم حرب أو جرائم ضدّ الانسانية كجرائم الإبادة الجماعية التي اعتبرتها الأمم المتحدة والمجتمع الدولي تهديداً خطيراً للسلم العالمي، وهو المبرر الأساسي والضروري للجوء الى البند السابع من الميثاق الأممي.
    الموافقة على نظام المحكمة الخاصة ذات الطابع الدولي بشكله الحالي، وكذلك العمل، في السرّ أو العلن، على إقامة محكمة تحت أي بند من بنود الميثاق الأممي تعمل خارج السيادة والمصلحة الوطنية، «خطأ جسيم مواز للنية الجرمية»، بلغة القانون. أحرّ التمنّي، يا معالي الوزير، أن تكون عاملاً أساسياً في تصحيح هذا الخطأ لا شريكاً في صنعه.
    مع التقدير وفائق الاحترام
    * أستاذ محاضر في القانون الدولي في جامعة جورجتاون في واشنطن