علي الشامي *
يتجاوز الملف الإيراني النووي مشروعية الحق بامتلاك التكنولوجيا النووية لأغراض سلمية إلى مجمل العلاقات الدولية والهيئة التي استقرت عليها بعد انتهاء الحرب الباردة. ويبدو من استطالة المناقشات حول الموقف الدولي من الملف النووي الإيراني أننا أمام واحد من احتمالين: إما توافق دولي على تطويق إمكان تحوّل إيران إلى قوة إقليمية وازنة وأساسية في محيطها المباشر وفي مسار السياسة الدولية ذات الصلة بالمنطقة وبالمصالح الاقتصادية، وإما بداية نوع جديد من الحرب الباردة يقف على طرفيها روسيا والولايات المتحدة الأميركية، الأولى مدعومة من الصين والثانية من الدول الأوروبية المشاركة في مناقشات هذا الملف، أي فرنسا وألمانيا وإنكلترا.
وبهذين الاحتمالين، تفترق المسألة النووية الإيرانية عن مثيلتها الكورية الشمالية، ليس فقط لأن هذه الأخيرة قد دخلت النادي النووي العسكري، بل أيضاً لأنها لا تهدّد مباشرة بإعادة ترتيب التوازنات الدولية. ويمكن القول إن السياسة النووية لكوريا الشمالية تموضع عرض عضلات صيني دائم يستهدف الأطراف الأخرى، وتحديداً الولايات المتحدة واليابان، ويحذّرها من اللعب في منطقة نفوذ الصين إقليمياً واقتصادياً وعسكرياً. وبعبارة أخرى، لا يشكل الملف الكوري الشمالي ساحة منافسة دولية عامة بقدر ما يشكل بؤرة نزاع إقليمي مدعوم بعلاقات دولية. وعلى العكس من ذلك، فإن الملف النووي الإيراني يهدد فعلياً الصيغة الراهنة للنظام الدولي، سواء بالهيمنة الأميركية الواحدة أو بالمنافسة بين الدول العظمى الأخرى في منطقة ذات تأثير حاسم واستراتيجي بالنسبة لمصالح جميع الأطراف. ذلك أن إيران ليست دولة قائمة في زاوية جغرافية، مثل كوريا الشمالية، بل يشكل موقعها الجيو ــ استراتيجي ونوعية نظامها وقربها من مناطق الاحتياط العالمي للنفط ووجودها على تخوم الممرات البحرية لناقلات النفط من الخليج إلى باقي العالم، وإذا أضفنا إلى هذه العوامل مجتمعة الطابع الاستقلالي لهذه الدولة وعزمها على امتلاك الطاقة النووية، فإننا نصبح أمام حالة مختلفة تماماً عن حالة كوريا الشمالية، وهي الحالة التي تجعل من الملف النووي الإيراني قضية دولية من الدرجة الأولى.
وفي هذا السياق يمكن مقاربة الاحتمال الأول، أي قيام توافق دولي على عرقلة تحوّل إيران إلى قوة إقليمية نافذة. ذلك أن الاعتراف بعضوية إيران في النادي النووي يعني عملياً منحها حصانة أمنية تخرجها من إطار التهديد الأميركي بالحروب الوقائية والاستباقية وتفرض على خصومها سياسة دائمة من المساومات والصفقات والتنازلات المتبادلة، وهذه عوامل إذا ما اجتمعت لإيران تجعلها جاراً قوياً لروسيا وشريكاً مقيماً للولايات المتحدة في عموم المنطقة. فالاستراتيجية الأميركية المعلنة منذ عام 2002، تقوم على منع قيام أي منافس دولي للقطب الأميركي الواحد، فكيف إذا كان الأمر مع منافس إقليمي في منطقة ارتكاز هذه الاستراتيجية ومدخلها إلى السيطرة على الاقتصاد الدولي وتطويق كل تنافس محتمل.
إن إيران نووية واستقلالية وغنية بالنفط والغاز واحتياطها الكبير وباحثة عن دور إقليمي منافس ومناقض للمصالح الأميركية وذات الكثافة البشرية والثقل السياسي في جوار دول متداعية ومأزومة، وذلك كله مدعوم باستقرار داخلي في النظام والمجتمع وتطور مستمر للقدرات العسكرية، كل هذه العوامل، وفي منطقة حساسة جداً، تكون كافية للولايات المتحدة لكي تبذل كل جهودها للحيلولة دون قيام هذه القوة الإقليمية، إذ في ذلك وحده تكمن قدرتها على حماية مصالحها الاستراتيجية في نقطة ارتكازها الاقتصادي والعسكري والسياسي. وبعكس كوريا الشمالية، حيث لا توجد مصالح اقتصادية أميركية مباشرة ولا تبحث كوريا عن دور إقليمي لنفسها، فإن إيران تمارس نوعاً من التدخل السياسي في منطقة احتكار الولايات المتحدة الأميركية للسياسة ذات الصلة. ذلك أن إيران تتدخل في قضايا نزاعية على تماس مع المصالح الأميركية، مثل العراق وفلسطين وسوريا ولبنان وبعض دول الخليج وأفغانستان. وبالتالي فإن التفاهم الدولي مع التنازلات المطلوبة لقيامه يصبح شرطاً لنجاح سياسة التطويق والعزلة والتهميش تجاه إيران. وبهذا المعنى، نفهم المناورة الأميركية التي تخاطب روسيا بالحذر من جار إسلامي قوي، وتخاطب العرب، عربها، بجار نووي أو صاحب القنبلة النووية الشيعية. فهناك تحذير من خطر إيديولوجي وهنا تحذير من خطر مذهبي. وهذان التحذيران ما تعوّل عليه الولايات المتحدة في تعاملها مع حاجتها إلى الشريك الروسي والعربي ــ الإقليمي بهدف وأد النفوذ الإيراني في بداية الطريق.
ومن جهتها، فإن روسيا الاتحادية تتعامل أيضاً بحذر مع جارها الإيراني، وتظهر تعاوناً متردداً في العمل المشترك لعدم إفساح المجال أمام إيران للدخول إلى النادي النووي الدولي. ذلك أن إيران قوية تستطيع أن تشاكس على المصالح الروسية في المنطقة الإقليمية المشتركة. ويدور في ذهن المسؤولين الروس الخوف من المنافسة الجيو ــ سياسية في جنوب القوقاز وآسيا الوسطى وثروات بحر قزوين، وهذه المنافسة تكاد تكون محصورة في منطقة النفوذ الروسية شبه الوحيدة، حتى الآن. وبالتالي، تبرّر هذه المنافسة المحتملة إقدام روسيا على تقديم تنازلات في ملف إيران النووي لمصلحة الأطراف الدولية الأخرى. غير أن أمر روسيا هنا مرتبك. فمن جهة، تستشعر خط التمدّد الأطلسي نحو مناطق نفوذها التاريخية، وخطر الهيمنة الأميركية على الشرق الأوسط، وخطر القواعد العسكرية الأميركية في الجمهوريات السوفياتية المستقلة حديثاً، وخطر التفرّد الأميركي بقرارات مجلس الأمن...
ومن جهة ثانية، تدرك حاجتها إلى أوراق قوة تعيد إليها بعضاً من دور افتقدته، وتبحث عن أسواق تستوعب الفائض من صناعاتها الحربية، إضافة إلى حاجتها إلى المساهمة الندّية في قضايا الطاقة والنزاعات الدولية ذات الصلة بالمصالح الروسية العليا. وبالتالي، فإن روسيا قد تقدم على مغامرة غير محسوبة النتائج إذا واصلت سياسة التوافق الدولي المناهض لإيران، حيث أبرمت عقوداً نفطية ونووية مرتفعة الكلفة والفائدة. وهي، عملياً، تقف في الوسط، ما بين خوفها من جار قوي محتمل وقطب أميركي يبحث عن هيمنة مطلقة، ما بين توافق دولي لا يزيد في رصيدها الاستراتيجي وحنينها إلى دور قطفت منه ثماراً كثيرة في الحرب الباردة ومرحلة الصراع على النفوذ الدولي.
وفي هذا السياق يندرج الاحتمال الثاني، أي احتمال أن يتحوّل الملف النووي الإيراني إلى ساحة ناشئة لحرب باردة جديدة. فالولايات المتحدة، ومثلما تحرص على منع حيازة إيران دورة نووية كاملة كمقدمة لمنعها من التحوّل إلى قوة إقليمية في موقع أساسي من مواقع الاستراتيجية الأميركية، فإنها تحرص أيضاً على الإمساك بالقرار الدولي ومنع قيام أي منافس دولي لها بعد انتصارها في الحرب الباردة المنصرمة، وهذا الاستفراد يستهدف روسيا والصين بقدر ما يستهدف فرنسا وألمانيا.
وهذا يعني أنها تبحث عن توافق ضد إيران وضد الآخرين جميعهم، وفي طليعتهم روسيا ومن بعدها الصين، الأكثر استفادة من الشراكة الاقتصادية مع إيران. فلا يبقى أمام الولايات المتحدة سوى تقديم تنازلات للشركاء الآخرين بهدف تطويعهم لاستراتيجيّتها أكثر مما تهدف إلى إشراكهم فيها والمصالح.
وإذا كان موقف أوروبا، وتحديداً فرنسا وألمانيا يتأرجح ما بين التوافق مع السياسة الأميركية والبحث عن مكان لها وحصص في استراتيجيتها، فإن روسيا والصين تدركان جيداً مغزى الاستفراد بالهيمنة على الاقتصاد العالمي من بوابة السيطرة على مصادر الطاقة والأسواق المالية وتجارة السلاح. وبالتالي، فإن تقديمها تنازلات موصلة الى توافق الحدّ الأدنى ضد إيران النووية، لا يعني بالضرورة أنهما قد أسلمتا أمرهما للاستراتيجية الأميركية الراهنة.
فالعرض الصيني لعضلات كوريا النووية يشكل نموذجاً للتنافس الصيني ــ الأميركي في الشرق الأقصى، ولن تتراجع الصين في منافستها أميركا في حديقتها الآسيوية، كما ان روسيا لا تستطيع التأقلم مع سياسة العيش على هامش القرار الدولي، وتبحث عن مصالح وأسواق ونفوذ وكأنها تبحث عن دور الاتحاد السوفياتي السابق. وفي نهاية التحليل، لن يبقى أمام روسيا، وكذلك الصين، سوى تدوير الزوايا وامتلاك قدرة خوض حرب باردة جديدة تحدّ من التمادي الأميركي وأحاديّته في إدارة شؤون العالم بما في ذلك مناطق تشكل أهدافاً مؤجّلة لا غنى عنها لمصالحها معاً.
* باحث وأستاذ جامعي