رياض صوما*
قبيل مطلع العام الجديد، صرح وزير الدفاع الأميركي السيد غيتس، بأن الأميركيين باقون طويلاً في المنطقة وفق الاستراتيجية الأميركية المزمع إعلانها، ما يشير الى أن فوز الحزب الديموقراطي وصدور تقرير لجنة بيكر ــ هاملتون واستمرار هبوط شعبية جورج بوش، لن يعدلوا الكثير من عناد الادارة الحالية، وعلينا أن نصدق ما أعلنه غيتس. ليس فقط لأن قوله ترافق مع تعزيزات عسكرية جديدة في الخليج وفي العراق وأنحاء أخرى من الشرق الأوسط الكبير، ومع إعطاء الضوء الأخضر لأثيوبيا لغزو الصومال، ورفض الحوار العلني مع ايران وسوريا، وتشجيع أبو مازن والسنيورة والمالكي لرفض أية تسويات منطقية مع معارضيهم، ثم توّج بإعدام الرئيس العراقي السابق صدام حسين، بل لأن إدارة بوش تكرر تأكيدها بوضوح أن قناعتها هي أن المصالح العليا للولايات المتحدة تستدعي المزيد من التضحيات، وأن مخاطر الانكفاء تفوق مخاطر البقاء. وهذا ما يراه كذلك أتباع هذه الادارة في المنطقة، ويبدون أشد اعتراضاً منها، على مقترحات لجنة بيكر. لذا من المؤكد أن غيتس يستهدف تشجيع هؤلاء للصمود وعدم الإقدام على أية تنازلات، ويستهدف تحذير أخصام السياسة الأميركية من الرهان على الصعوبات التي واجهتها وتواجهها سياسة بوش وأتباعه في المنطقة والعالم، أو انتظار أي تغيير سريع لها. يرى البعض أن هذا التشدد الظاهري هو نوع من الحرب النفسية والاعلامية التي تمهد للتسويات والتراجع. ولكن هناك الكثير مما يدعو للشك في هذا التقدير. أولاً، لأن حجم المصالح الأميركية الاستراتيجية في المنطقة، هو فعلاً كبير جداً. ثانياً، لأن تناقضات المنطقة السياسية والقومية والدينية والمذهبية، الموروثة والمستجدة، داخل صفوف المتضررين من السياسات الأميركية وحتى المتصدين لها، ما زالت تفسح لجورج بوش وادارته مجالاً واسعاً وطويل المدى للبقاء والمناورة. ثالثاً، لأن طبيعة ممارسات بعض القوى المناهضة للمشروع الأميركي ــ الأطلسي ــ الصهيوني وسماتها، لا تشجع أقساماً واسعة من نخب المنطقة وجماهيرها، ولا تلقى تعاطفاً من الرأي العام العالمي. وأخيراً وليس آخراً لأن القوى المتحالفة مع الأميركيين أو الملتحقة بهم ما زالت تحظى بقاعدة سياسية أو قومية أو مذهبية موروثة أو مكتسبة وازنة. ولا شك في أن وزير الدفاع الأميركي المخضرم، وخريج قسم العمليات في الاستخبارات الأميركية، يعرف ذلك كله، كما يعرف خلفيات ودوافع الدعم الفعال الذي قدمته هذه القوى، والخليجية منها خاصة، للولايات المتحدة خلال صراعها المديد مع السوفيات طوال الحرب الباردة، وأنها لم تتردد في خوض أية معركة رآها الأميركيون ضرورية لنجاح خططهم المحلية والعالمية،
فما هي الفكرة المضمرة التي تدور في ذهنه وذهن الآخرين لدى مقارنتهم بين الحرب الباردة وحرب الاستنزاف الطويلة المقبلة التي سيفرضها قرار البقاء الطويل في المنطقة؟ يمكن تلخيصها بالتالي: «ايران ليست الاتحاد السوفياتي».
الأميركيون يرون أن ايران هي أضعف من الاتحاد السوفياتي بكثير، فإذا كانوا قد نجحوا سابقاً بهزيمته عبر حصار سياسي واقتصادي وعسكري طويل الأمد، فإنهم قادرون على هزيمتها الآن عبر استراتيجيا مشابهة؟ وقد باشروها فعلاً. وهذا هو مضمون كلام بوش المتكرر: اصمدوا، سننتصر في النهاية. خلال الحصار السابق، استفادوا من اشتراكية النظام السوفياتي، فحرّضوا عليه كل رأسماليي العالم. واستفادوا من «روسيته» فحرّضوا عليه كل القوميات التي سبق أن اضطهدها الروس. واستفادوا من «إلحاده» فحرّضوا عليه كل المؤمنين، الخ... خلال الحصار الراهن، يحاولون الاستفادة من ثورية النظام الايراني لتحريض الأنظمة الهشة المحيطة به على سياساته المتشددة، ويحاولون الاستفادة من شيعيته لتحريض المدى السني على المشاركة في حصاره، ويحاولون الاستفادة من «فارسيته» لتحريض القوميات الأخرى عليه، الخ... ولكن نجاح الحصار السابق للسوفيات، لا يضمن نجاح الحصار الراهن لإيران، لاختلاف الظروف الدولية والاقليمية. إلا اذا كرر الايرانيون الأخطاء السوفياتية، وتابع القادة العرب بيع مصالحهم الوطنية والقومية والاقليمية، مقابل الحفاظ على سلطتهم، وكررت القوى المستهدفة تغليب تناقضاتها الثانوية على تناقضها مع المحتل الأميركو ــ صهيوني، وبعض مقدمات ذلك بادية للعيان، للأسف، في العراق وفلسطين ولبنان والسودان والصومال.... على كل حال، لن يفلت الأميركيون من الإعصار الذي أطلقوه في السنوات السابقة والذي يعملون على تصعيد عنفه في السنة الطالعة. فنهج تصفية الأخصام المعتدلين نسبياً، عبر الحروب الأهلية والمذهبية، سيخلي الساحة لبدائل من طراز الزرقاوي وفرق الموت. قد يغرق هذا المنطقة في دوامة العنف والموت، لكنهم سيغرقون بدورهم وحلفاءهم في الدوامة عينها.
أما القادة العرب «المعتدلون» فيرون أيضاً أن ايران ليست الاتحاد السوفياتي، ومن استطاع تحمّل ثمن مواجهة السوفيات، قادر على تحمّل كلفة مواجهة ايران. ولكنهم يتناسون أن السوفيات على رغم قوتهم العالمية، كانوا طرفاً خارجياً. بينما ايران هي بمعنى ما قوة «داخلية»، لذلك الصدام معها، وخاصة اذا واصلوا إعطاءه الطابع المذهبي انسياقاً مع المخطط الأميركي المعلن، سيدخل المعركة الى غرف نومهم. عندئذ لن ينفعهم الدعم الأميركي بأكثر مما نفع النظام الشاهنشاهي. لذا من الأفضل لهم أن يكونوا أكثر حذراً، وأقل اطمئناناً إلى «النصائح» المسمومة. أما الإيرانيون فيعلمون أنهم ليسوا الاتحاد السوفياتي، ولكن من مصلحتهم أن يستخلصوا العبر من التجربة السوفياتية. أين نجحت في كسر الحصار الأميركي الأطلسي وأين فشلت؟ لماذا نجحت في كوبا وفيتنام والهند ومصر وسوريا وغيرها، ولماذا فشلت في المجر وبولونيا وجورجيا وأفغانستان وغيرها. ويزداد ذلك إلحاحاً مع تصاعد حملة التحالف الأميركي الأوروبي الاسرائيلي العربي الرسمي على ايران وحلفائها. لتقارن القيادة الايرانية بين الحماسة والتأييد الذي لقيه حزب الله وقائده سماحة السيد حسن نصر الله، خلال العدوان الاسرائيلي الأخير على لبنان، وبين الانزعاج وحتى الاستهجان الذي لقيته مشاركة بعض أصدقائها في بغداد للأميركيين في إعدام صدام حسين. إن عشرات الزيارات والتصريحات والمؤتمرات الإيجابية والمطلوبة، لا تمحو من ذاكرة الكثيرين من العرب والمسلمين السنّة تحديداً، مشهد الجماهير ترقص فرحاً لقتل الرئيس العراقي على يد سلطة خاضعة لإرادة الاحتلال الأميركي. ولا ينبغي أن نخدع أنفسنا بالقول إن صدام لا يمثل السنّة العرب، أو بالقول إن سياساته الهوجاء خدمت الغربيين والأميركيين، وخاصة حربه على ايران وغزوه الكويت، وهذا صحيح. فالمهم ليس ما نراه نحن، بل ما تراه الجماهير في لحظة ما، وفي ظرف تشوبه الالتباسات والتوترات المذهبية. فلا يجوز أن نسهّل التآمر الصهيوني الأميركي من خلال الاستسلام لردات الفعل ولمشاعر الانتقام. فلن تنجح ايران في صد الحصار الأميركي، واكتساب الموقع الذي تستحقه في المنطقة اذا لم تنجح في كسب حلفاء حقيقيين في البحر السني المحيط بها، وهي تدرك ذلك ولا شك. لذلك هي في حاجة إلى الابتعاد عن السياسات الملتبسة، وعدم التردد في نقد ممارسات بعض حلفائها وأصدقائها، عندما تلحق الضرر باستراتيجيا منع الفتنة، وتوسيع دائرة التحالفات. أما القوميون والليبراليون واليساريون السابقون، المعجبون بالدور الأميركي «الحضاري» في المنطقة، و«عروبة وديموقراطية» المطاوعين، فقد جعلوا من مقولة (ايران ليست الاتحاد السوفياتي)، مدخلهم الرئيسي لإقناع الآخرين بخطأ التعاون مع ايران وحلفائها لصد الهجمة الاستعمارية الأطلسية. وكأن الاحتلال الأميركي ومجازره مجرد سياحة، أو كأن زوال الاتحاد السوفياتي ينبغي أن يبقي الوطنيين والاستقلاليين العرب من دون حليف الى الأبد، أو كأنه لا فائدة من أي حليف لا يتمتع بمواصفات سوفياتية خالصة، أو كأن على الشعب المحتل أن يضع «شروطاً» على من يمده بالدعم السياسي والمادي. بالتأكيد ايران ليست الاتحاد السوفياتي، ولكن مصر عبد الناصر لم تكن كذلك، ومع ذلك كنا فخورين بالتحالف معها.
* عضو المجلس الوطني للحزب الشيوعي اللبناني