غسان العزي *
الشركات العسكرية الخاصة (PMF بالإنكليزية وSMP بالفرنسية) شركات تجارية مثل غيرها تسعى للربح والمردودية، لكنها تقدم خدمات هي تقليدياً من اختصاص القوات المسلحة الوطنية الحصري. إنها شركات مدنية من النواحي القانونية والهيكلية التنظيمية، وإن كانت تستخدم عناصر وضباطاً من قدامى الجيوش النظامية.
تعمل هذه الشركات في أكثر من خمسين منطقة ساخنة في العالم، لكن زبونها الأول هو دافع الضرائب الأميركي. فقد وقعت واشنطن أكثر من ثلاثة آلاف عقد مع مثل هذه الشركات خلال العقد المنصرم. وجاء ذلك في ظروف انتهاء الحرب الباردة وتقليص حجم القوات المسلحة الأميركية إلى الثلث تقريباً وتطور أجهزة المراقبة والانتشار ومكننة الحرب العصرية. وحتى الحرب على العراق بقيت الصناعة العسكرية الخاصة طي الكتمان، فعندما أسقطت طائرة للسي. أي. ايه، بطريق الخطأ، طائرة مدنية تقل عدداً من المرتزقة الأميركيين فوق البيرو عام 2001، كان قليل من الناس يعرفون أن طائرة السي. آي. ايه تستخدمها شركة خاصة بموجب عقد، هي شركة «أفيايشن دفلوبمنت كورب». وعندما قتل مسلحون فلسطينيون ثلاثة أميركيين في غزة في خريف عام 2003، معظم الناس كانوا يجهلون أن هؤلاء الثلاثة يعملون لشركة عسكرية خاصة من فرجينيا هي «داين كورب».
ورغم أنها حديثة العهد ــ منذ حوالى عشر سنوات ــ فإن وزارات الدفاع والداخلية وقوات الأمن والاستخبارات التابعة لدول غربية كبرى باتت تلجأ إلى خدمات هذه الشركات الخاصة التي باتت تحقق دخلاً سنوياً يربو على مئة مليار دولار، وأضحى لها لوبيات وجماعات مصالح حقيقية ذات نفوذ في واشنطن. ففي عام 2001 وحده أنفقت عشر شركات عسكرية خاصة أكثر من 32 مليون دولار في عمليات «لوبيينغ» وقدمت 12 مليون دولار للحزبين الرئيسيين في واشنطن. شركة هاليبرتن دفعت 700 ألف دولار بين 1999 و2002 منها 95 في المئة للحزب الجمهوري ودين كورب دفعت 500 ألف، 72 في المئة منها للحزب نفسه. وقد انخفضت مساهمات هاليبرتن إلى النصف بعد وصول ديك شيني إلى البيت الأبيض بصفة نائب للرئيس لأنها لم تعد مضطرة إلى دفع المال بعد أن أضحت في مركز القرار حيث ارتفعت قيمة العقود التي وقعتها إلى ثلاثة أضعاف ما كانت عليه.
ليس فقط في أفغانستان، بل وفي نقاط ساخنة أخرى من العالم كانت هذه الشركات العسكرية الخاصة حاضرة لمكافحة الإرهاب. في الفيليبين ضد الجماعات الاسلامية المسلحة، أمنت «دين كورب» كل العمليات اللوجستية الضرورية، وكانت قد انخرطت في الحرب على مهربي المخدرات في كولومبيا. وعندما أرسلت الولايات المتحدة فرقة للتدريب العسكري في جيورجيا كانت مؤلفة في جلها، من العاملين في شركات عسكرية خاصة. في غوانتانامو حُبس أعضاء من طالبان والقاعدة في سجن عسكري بنته شركة KBR المتفرعة من هاليبرتن، واستجوبوا بمساعدة متعاقدين من شركة «تيتان» الخاصة. ولكن مع حرب العراق بدأت هذه الصناعة العسكرية تصبح حقيقة «صناعة راشدة». لقد كانت مساهمة الشركات الخاصة أساسية في التحضيرات والتدريبات والتموين، وحتى في رسم خطط المعارك في الصحراء الكويتية. المجمع العسكري الأميركي الضخم في معسكر الدوحة من حيث انطلقت الطائرات المقاتلة والقاذفة كانت تديره وتحرسه شركة خاصة. وفي آذار/نيسان 2003 خلال المعارك الكبرى ساهمت الشركات الخاصة في كل شيء تقريباً: من التموين إلى اللوجستيك إلى سكن الجنود وصيانة الأسلحة حتى المتطورة منها مثل طائرات الشبح والأف ــ 117 والتجسس Uــ2 والأباتشي والغلوبال هاوك ودبابات م ــ1 ونظم الدفاع المضاد للطائرات على السفن الحربية. وقد اعتمد الإنكليز والأوستراليون وغيرهم من حلفاء أميركا على الشركات الخاصة التي ازدادت مساهمتها بمقدار عشرة أضعاف عما كانت عليه في حرب الخليج الثانية.
وهكذا يتفق المراقبون على أن الحرب على العراق كانت الحرب الأولى «المخصخصة» في التاريخ. وبعد الاحتلال ومع الانحسار التدريجي للآمال والتوقعات المتفائلة زاد الاعتماد على القطاع العسكري الخاص إلى درجة أن الارقام، ولو غير الدقيقة، تتكلم عن وجود حوالى عشرين أو ثلاثين ألف مرتزق ينتمون إلى عشرات الشركات الخاصة في العراق اليوم التي تعمل في مجالات الدعم العسكري والتدريب والاستشارات والقيام ببعض المهام التكتيكية والأمنية، فضلاً عن حراسة الشخصيات المهمة. إنها مهام أساسية، ولو كانت الشركات الخاصة لاتشكل جزءاً من القوات النظامية، الأمر الذي يؤدي إلى بعض التضارب والتخبط في تقاسم المعلومات وفي الحقوق والمسؤوليات لدى خوض المعارك.
ومن المؤكد أن نصيب القطاع العسكري الخاص سوف يزداد في العراق مع الفشل الأميركي في الإمساك بالوضع. هذا القطاع يسهم في التخفيف من الكلفة السياسية للحرب ومن الحاجة للمزيد من جنود الاحتياط والحلفاء، فضلاً عن أن الشركات الخاصة ليست ملزمة بالإعلان عن خسائرها البشرية والمادية، ولا عن نشاطاتها وعدد عناصرها وغيره، كما هي حال الجيوش النظامية. وتجدر الإشارة إلى أن هذه الشركات، بعناصرها المنتمين لأكثر من ثلاثين جنسية، توفر لإدارة بوش تحالفاً دولياً من نوع مختلف في العراق. هؤلاء يزيد عددهم على أي قوة نظامية حليفة بما فيها البريطانية نفسها.
لقد بات العراق منجم ذهب حقيقياً، حيث تزيد الأرباح على المخاطر رغم كل شيء. هذا ما يقوله دونسان بوليفانت مدير شركة «هندرسون ريسكز» البريطانية. ويكسب جنود الشركات العسكرية الخاصة ثلاثة أضعاف ما يكسبه زملاؤهم في القوات النظامية. ويعكس سلم الرواتب حقائق العولمة: في العراق، يقبض عنصر النخبة الأميركي الآتي من «القبعات الخضر» حوالى ألف دولار في اليوم الواحد وهو مبلغ يتقاضاه الجندي النيبالي أو الفيدجي في الشهر. وهذا ما يطرح علامات استفهام عن قدرة الجيوش النظامية على منافسة القطاع الخاص مع الوقت ومنع عناصرها من الانشداد إلى إغراءاته والانصراف إليه. الحقيقة أن الرؤساء والملوك كانوا يلجأون منذ وقت طويل إلى خدمات المرتزقة، ومنذ وقت ليس بالطويل أخذت الجيوش النظامية تنخرط في اقتصاد السوق واللجوء إلى خدماته. لكن خصخصة الدفاع وتدريب الجنود وقيادة العمليات الهجومية والنقل واللوجستيك وغيره هي أمر جديد كل الجدة. الجديد أكثر من ذلك أن هذه الخصخصة لم تعد اليوم موضوعاً يتطرق إليه بعض الخبراء والاستراتيجيين بكثير من الحياء والخفر. إنه تطور بدأ يفرض نفسه بقوة وبسرعة البرق باسم العقلنة الاقتصادية والفاعلية وسياسة الحد الأدنى من الخسائر البشرية. فلماذا نرسل جنودنا إلى الموت إذا كان ثمة من يقدم نفسه للذهاب بدلاً منهم في مقابل حفنة من المال؟ سؤال يحظى بتأييد الرأي العام في الدول الغربية التي لم تعد تخفي اعتمادها على قطاع يبدو أن أمامه عصر ذهبي، فالطريق لا يزال في بدايته وهو واعد بالربح والمردودية... والمزيد من الحروب.
* كاتب لبناني