محمد سيد رصاص *
لا يطبق الحداثيون العرب الحداثة الغربية في نظراتهم للإسلاميين، حيث يلاحظ عبر التاريخ الغربي الحديث وخصوصاً في القرنين الماضيين أن النظرة التي سادت في الغرب لمقاييس التقدم والتحضر قد بُنيت على التالي، وعبرها يُقاس الانسان: 1ـ تعامله مع الأشياء (الطبيعيات + الاقتصاد)، 2ـ طريقة تعامله مع البشر الآخرين، 3ـ الأفكار، وليس العكس كما يظن الكثير من المثقفين العرب،كما ان الحقول الثلاثة المذكورة يُنظر لها، كلاً أو جزءاً، من خلال رؤية تخضع فيها تعاملات البشر وأفكارهم وسلوكهم إلى نظرة وظيفية لا ترى شكل الفكر أو السلوك، بل وظيفيته ودور حامله الاجتماعي في لحظة ومرحلة تاريخية محددة ومدى انسجامه أو تناقضه مع المهام والطبيعة المرحلية التي يمر بها المجتمع المعني.
نرى عند غالبية الماركسيين العرب، ولدى الكثير من الليبراليين العلمانيين الذين رفدهم الكثير من أتباع موسكو القدامى بعد عام 1989، معايير شكلانية في النظرة للأفكار الإسلامية وحامليها، تختلط مع استقطابات كان ينظر اليساريون من خلالها إلى الإسلاميين من الخندق الآخر المقابل في فترة الحرب الباردة، الشيء الذي نراه الآن عند الليبراليين العرب الجدد، لكن عبر موقع حددته استقطابات ما بعد 11 أيلول التي وضعت واشنطن، زعيمة المشروع الليبرالي العالمي، في موقع متصادم مع الإسلاميين، حيث يتجاوز الليبراليون الجدد بغالبيتهم حدود العداء للإسلاميين ليصلوا إلى الإسلام ذاته.
تتحدد هذه المعايير عبر مقاييس شكلانية: الحجاب، طول التنورة، ثم عبر مقاييس سلوكية تجاه أشياء معينة، مثل الخمور، لا عبر مقاييس تقاس بها حداثة الإنسان المعاصر، مثل درجة استيعابه للعلوم أو إتقانه للتقنية أو مدى انخراطه الناجح والمثمر في العملية الاقتصادية، مع غض نظر عن شكل ومضامين فكره واعتقاداته، حيث كان إسحق نيوتن متديناً، وكان أبو القنبلة الهندية النووية هندوسياً متديناً يعبد البقرة، فيما كان أحد الصانعين الأساسيين للقنبلة الذرية الإسرائيلية، يوفال نائيمان، شخصاً شديد التدين والتعصب القومي، قد ساهم في إنشاء حزب (هاتيحيا) الذي انشقّ عن (الليكود) بسبب رفضه اتفاقات كامب دافيد، في تأكيد ـ من قبل هذه الأمثلة العملية ـ للفكرة السائدة في الغرب حول انفصال (المعقولية الذهنية) عن (المعقولية العملية) من حيث ان ميدان الأخيرة هو العلم والاقتصاد والسياسة، فيما مجال الأولى هو الأفكار، وهو انفصال مكرّس معرفياً منذ كانط عبر كتابيه «نقد العقل المحض» و«نقد العقل العملي». نلاحظ هنا ـ عند اليساريين العرب وعند العلمانيين الليبراليين ـ نظرة يتم فيها تغليب الفكري على ما عداه، وفق رؤية قياسية معيارية لما يراه أصحابها أنه الحداثة، يتم من خلالها تحديد محتوى النظر إلى الآخر، وفي الحالتين، أي حالة يساريي موسكو المتضادين مع الإسلاميين في فترة بريجنيف وأندروبوف وحالة ليبراليي واشنطن العرب الجدد، تُوضع مقاييسهم للحداثة في واجهة خطابهم، مغلفةً استقطاباً سياسياً محلياً مع مركز دولي ضد الإسلاميين، وخافيةً وساكتةً عن انخراط عملي في الحداثة ـ عبر العلوم والتقانة والاقتصاد ـ تفوّق عبره الإسلاميون العرب على الاتجاهات الايديولوجية الأخرى خلال العقود الثلاثة الماضية، يمكن قياس مداه من خلال خريطة توزعهم الغالب في الكليات العلمية الجامعية العربية، فيما كان غيرهم متركزاً أساساً في كليات الآداب والفنون، حيث يلاحظ أن الاتجاهات الايديولوجية صاحبة المد السياسي تكون ممتدة في العلوم والاقتصاد والتقنية، فيما المتركزة في الآداب والفنون تكون في حالة جزر سياسي، وهو ما يمكن ملاحظته من الفوارق بين امتداد الماركسيين العرب في جامعات الأربعينيات والخمسينيات بالقياس إلى ما بعد السبعينيات، حيث يلمس هنا ـ عند من هم في حالة جزر سياسي ـ النزعة الحالمة وغير العملية، وحتى عندما يهتمون بالاقتصاد فإنهم لا يتجاوزون الإطار النظري إلى الميدان النظري ـ التطبيقي، كما انهم يعطون للأفكار والألفاظ دوراً أساسياً في العمليتين الفكرية والسياسية، وليس للوظيفية العملية للأفكار أو التوازنات والمصالح وتوازن القوى في اللعبة السياسية، بعكس من هم في حالة مد سياسي.
هل يمكن قياس الشيخ الشهيد أحمد ياسين من خلال أشكال الزي الذي ترتديه بناته، أو من خلال موقفه من الخمور، أو من قضايا قانون الأحوال الشخصية، أو عبر مقاييس أخرى في مجتمع وشعب هما تحت الاحتلال، وما يعنيه هذا من أن التناقض الرئيسي للمرحلة التاريخية لهذا الشعب متحدد في (الوطني)، وأن كل الحقول الأخرى، بما فيها (الديموقراطية) و(التحديث)، تتحدد من خلال التوافق أو التناقض مع المحدّد الرئيس؟
* كاتب سوري