أرنست خوري *
لقد دار بين السيّدين زياد حافظ وغالب أبو زينب في عددي صحيفة الأخبار (128 ــ 134) حواراً هادئاً لم يُرد منه تقاسم الأدوار بين الرد والرد المقابل، وهو نقاش بين حافظ القومي العروبي «ابن ثورة يوليو الناصرية» (كما عّرف بنفسه)، وأبو زينب عضو المجلس السياسي لحزب الله. إذاً هما ممثلان لتيارين عريضين يتبنّيان «المقاومة» عقائدياً ودينياً، ولكي تكتمل صورة النقاش الدائر حول المنطق والآلية التي ينبغي برأينا أن يعتمدها حزب الله في عمله السياسي الداخلي، ارتأينا أن يكون لنا مساهمة متواضعة من منطلق أننا ننتمي إلى تيار يساري كان المبادر الأول إلى المقاومة المسلحة ضد العدو الإسرائيلي ولا يزال يجنّد طاقاته المتبقية في سبيل حماية هذا النهج عسكرياً وسياسياً وإعلامياً وثقافياً... نهج تبلور مؤسساتياً في إنشاء جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية التي ضمّنت قاموسها شعارين مركزيين متلازمين: «وطن حر وشعب سعيد»، بكلام آخر تحرير الأرض من الاحتلال من جهة، وتحقيق التغيير الديموقراطي العلماني من جهة ثانية. إنّ الموضوعات التي أثيرت في المقالين تحتمل كلاماً كثيراً وملاحظات عديدة لن نتمكّن من مقاربتها في هذا العدد القليل من السطور، لذلك سنقصر مداخلتنا على بعض النقاط الجوهرية:
بدايةً، إننا نتّفق مع السيدين على أنّ العدوان الإسرائيلي الأخير وما رافقه من تخاذل وتواطؤ من جانب قوى السلطة، استمر بعد انتهاء الحرب العسكرية ووصل إلى ذروته اليوم، لم يكن ضد حزب الله بما هو حزب ديني «شيعي» ذو لون واحد، إنما يقع جوهر الموضوع في مكان آخر: القذائف السياسية لقوى السلطة التي أسقطت من أدبياتها كل المحرّمات المذهبية و«الفتنوية» والعنصرية أحياناً، تصدر عن تحالف طائفي ــ طبقي، ليبرالي ــ محافظ، يُجمع أطرافه على معاداة أي حركة تحرر وطنية، فهو تيار سياسي وليد ثقافة سياسية تسارع الى اتهام كل حركة مقاومة بالإرهاب والتخريب والهمجية والتخلّف (إقرأ في هذا المجال الأطروحات الترويجية لثقافة الموت وثقافة الحياة)، بغضّ النظر عن الهوية العقائدية أو الدينية أو السياسية للطرف المقاوم. فلنتذكّر وبسرعة أنّ هذا اليمين اللبناني نفسه كان يعادي، ويقاتل أحياناً، قوى اليسار اللبناني ومعه كل القوى العلمانية التي قاومت العدو الاسرائيلي، وكان ذلك قبل تأسيس حزب الله حتّى. إذاً لا ترتبط المسألة بحقيقة أن المقاومة اليوم هي ذات لون طائفي واحد، بل ترتبط عضوياً بمشكلة أكبر، وهي أن هذه الطبقة السياسية ترفض مبدأ المقاومة بحد ذاته، أكانت مقاومة يسارية أم إسلامية أم... بوذية. إنّ من يتابع مواقف قادة الأكثرية الحالية يسمعهم يكرّرون: «فلنتّخذ موقع الحياد من الصراع العربي ــ الاسرائيلي، أدّينا قسطنا للعلى في الصراع، هذه الحرب جرّنا إليها حزب الله بالنيابة عن ايران وسوريا..»، والأجرأ بينهم يلمّح الى أنّه حان الوقت «لإبرام سلام مع اسرائيل»، مقتدياً بمسيرة مصر والأردن وغيرهما من أنظمة عربية رجعية باتت تعرف أميركياً بـ«محور المعتدلين المتنوّرين العرب».
إنّ اعتبار السيد حافظ أنّ المقاومة في لبنان هي «وجه المشروع الوطني والمشروع العربي النهضوي للأمة العربية» نراه بحاجة إلى تدقيق سنحصره في مصطلح «نهضوي»: إنّ أي مشروع نهضوي في العالم العربي لا نفهمه إلا إذا كانت العلمانية الشاملة ملازمة له ومكوّناً من مكوناته التأسيسية، وهو مشروع مطلوب أن يبدأ في كل دول عالمنا العربي بالتزامن والتوازي. بهذه الطريقة فقط نفوّت فرصة تضييع إنجازات المقاومة، فما بقيت الطوائف والقبائل والعشائر هي الفقرات التي تؤلّف عمود مجتمعنا المدني والسياسي، سيضيع أي إنجاز يتحقق ليبدو وكأنه لطائفة معيّنة هي مدعومة بالضرورة من دولة إقليمية أو غربية. وفي هذا الإطار يجوز تسمية نظامنا اللبناني بـ«مقبرة الإنجازات». ففي ظل نظام طائفي كالنظام اللبناني، تُسند الوظائف السيادية للطوائف الأساسية. ألم يكن هذا التقسيم الوظيفي وراء إسناد وظيفة المقاومة الى الطائفة الشيعية خلال فترة الانتقال القسري للمقاومة من يسارية علمانية الى إسلامية شيعية في أواخر ثمانينيات القرن الماضي؟ ألم يسند هذا التقسيم كذلك الأمر وظيفة الإعمار والنهوض الاقتصادي إلى الطائفة السنية، ومهمات تحقيق «السيادة» والاستقلال والحرية الى المسيحيين (وبخاصة الموارنة منهم)؟
إنّ ما يعبّر عنه قياديو حزب الله من إصرار لإلغاء الطائفية السياسية، لا يصبّ في خانة التغيير الديموقراطي المنشود، لأنه إصرار مربوط برفض مطلق لعلمنة المجتمع اللبناني، فالمطلوب بالنسبة إليهم إلغاء الصيغة الطائفية في تقاسم فئات الوظائف الرسمية والمناصب السياسية من دون المسّ ببنية المجتمع اللبناني الطائفي التي يُعبّر عنها سياسياً بتلك العبارة المقيتة «الديموقراطية التوافقية» التي تخفي وراءها بذور تعطيل أي آلية ديموقراطية حقيقية في نظامنا السياسي.
لقد كرر السيد حسن نصر الله في مهرجان النصر ثلاث مرات وفي خطاب واحد «نريد بناء الدولة القادرة العادلة المنصفة القوية»، لكنه لم يذكر مرة عبارة دولة حديثة علمانية لاطائفية. هنا تكمن معضلة المعضلات. لا شك في أنّ قيادة حزب الله تتصرف منذ عام 2000 على الأقل وصولاً إلى يومي 23 و25 كانون الثاني الجاري، كمن يمشي في حقل مليء بالألغام: إنّ مجموعة الخطوات التي اعتمدتها قيادة الحزب، ومنها ورقة التفاهم مع التيار الوطني الحر، التراجع عن فكرة الدولة الإسلامية في لبنان والحرص على عدم الانجرار إلى أية حرب أهلية (ستكون مذهبية بالضرورة في ظل غياب مشروعين سياسيين أو اقتصاديين متصارعين)، كانت العوامل التي جنّبت لبنان حتى الآن الكارثة الكبرى، إلا إذا اعتبرنا أنّ أحداث الأسبوع الماضي بمثابة «بروفات» ناجحة لسيناريو الفتنة. إنه سلوك أكثر من محمود وأكثر من حكيم وأكثر من عاقل في ظل تلاقي أجندات قوى السلطة مع المشروع الأميركي للمنطقة. إلا أنّ كل ذلك ليس سوى تأجيل للانفجار الكبير الحتمي لكون النظام اللبناني الطائفي، مولّد الفتن ومستجلب التدخّلات الأجنبية والمغذّى بتناقضات اجتماعية ــ طبقية، لا يعيد إنتاج نفسه إلا من خلال الدماء والحروب الأهلية الموسمية.
إنّ حكمنا على سياسات واستراتيجيات حزب الله في مرحلة الطائف مرتبط بـ«معيارية» واضحة: إذا كان المعيار هو مدى احترام الحزب لقواعد اللعبة اللبنانية (بما فيها مزاعم الصيغة والفرادة وقواعد التحاصص والتوافق)، من موقع المنتصر على العدو وموقع غير الراغب في الفتنة المذهبية (لأسباب وطنية واستراتيجية و«وجودية»)، فإنّ تقويمنا لسلوكه سيكون النجاح بعلامة امتياز. لكن المشكلة الكبرى تكمن في عدم اقتناع الحزب بعد، بأنّ قواعد اللعبة الطائفية باتت عاجزة عن إيجاد الحلول النهائية للانتقال بلبنان من «اتحاد الإمارات المذهبية» الى الدولة العلمانية الديموقراطية حيث لكل فرد حرية المعتقد وعدمه، وحيث المواطنون ليسوا رعايا، وحيث تفتح أبواب كل الأحزاب أمام الجميع لتجري المنافسة بين برامج اجتماعية اقتصادية سياسية بعيدة عن التقويم حسب هويات طائفية تخلق مع الإنسان، لا يكون له فيها رأي ولا خيار.
إنّ التذكير بأنّ هذه الملاحظات موجّهة لكل القوى السياسية اللبنانية الطائفية لهو من باب تحصيل الحاصل، إلا أنّ توجيهها لحزب الله حصراً في هذه المداخلة هو من باب معرفتنا المسبقة بأنّ في حزب الله من يسمع ومن يقرأ ملاحــظات، لا تكون خلفياتها سوى الحرص على الوطن الحر وشعبه السعيد.
* كاتب لبناني