غادة حب الله *
إن وجود أي نظام موالٍ للولايات المتحدة في منطقة الشرق الأوسط لا يشكل صمّام أمان لمصالحها الحيوية، ذلك أن هناك احتمالاً، ولو ضئيلاً، أن يتغير هذا النظام «الحليف» جراء ظروف جديدة قاهرة إلى نظام معادٍ تماماً فتنقلب الموازين. وهذا ما تعلّمته الولايات المتحدة من خلال تجربتها مع إيران.
من هنا تكمن أهمية تفكيك المنطقة وخاصة الدول النفطية كالعراق على سبيل المثال أو المعادية لإسرائيل كسوريا ولبنان. لذلك صدرت مقترحات من البنتاغون حول سيطرة أميركا على المسرح السياسي الإقليمي في الشرق الأوسط بدءاً بأفغانستان، العراق ثم فلسطين ولبنان... وباسم نشر الديموقراطية والحرب ضد الإرهاب ومنع أسلحة الدمار الشامل من الوصول إليه، ظل يجري على لسان بوش مشروع شرق أوسط جديد، يتلخص هذا المشروع في قيام كيانات إثنية أو دويلات مذهبية في المنطقة، بهدف إضعاف الدول القومية وضمان عدم التحاق الأقليات والطوائف والأعراق وانسجامها مع الأغلبية من أجل أن تبقى هذه الأقليات «قنابل موقوتة»، ناهيك بأن إدارة بوش تسعى من خلال مشروعها للسيطرة على منابع النفط وخاصة مع وجود منافسين أقوياء في استهلاك الوقود مثل الصين التي تحتل المركز الثاني في استهلاك الطاقة. وبالتالي، فإن الانتشار العسكري الأميركي في الشرق الأوسط يضمن السيطرة على نفط الخليج وقزوين واحتواء روسيا والصين.
وفي 21 تشرين الأول 2005 كلفت الخارجية الأميركية فريق عمل أميركياً متخصصاً برئاسة ريتشارد هيوارث أحد أبرز خبراء التخطيط الاستراتيجي في دائرة الشرق الأوسط في وزارة الخارجية الأميركية، بإعداد وثيقة عن الشرق الأوسط الجديد. وكان هناك تصوران لدى إدارة بوش، أوّلهما أن انهيار الوجود العسكري لحزب الله في لبنان سوف يمكّن الولايات المتحدة من استثمار التحركات التي قادتها تيارات مثل «استقلال لبنان» ضد سوريا وحزب الله، والثاني أن دعماً من شأنه أن يغيّر الخريطة في لبنان للدفع بحكومة تمنح إسرائيل أو على الأقل الولايات المتحدة، دوراً أمنياً في لبنان. من هنا جاءت تصريحات وزيرة الخارجية الأميركية نحو تغيير قواعد اللعبة وإقامة شرق أوسط جديد ليس جديداً.
ويدعم هذا المشروع استراتيجية «الفوضى الخلاقة» القائمة على إشعال الفتن الطائفية. وقد نجحت هذه الاستراتيجية في خلق الفتن في العراق إلا أنها فشلت في تحقيق أهدافها. بقيت ورقة أخيرة يلعبها الأميركيون، وهي مشروع الفدراليات في لبنان. وأفضل طريق لتحقيق هذا المشروع هو إثارة الفتنة وتعويم التناقضات المذهبية التي بدأت تبرز بوضوح في الشارع اللبناني على خلفية الأزمة بين السلطة والمعارضة.
وقد ذكر هنري كيسنجر في مقابلة تلفزيونية على الـCNN أنه أصبح من الضروري بناء فدراليات في لبنان! وقد قال قبله أحد السفراء الأميركيين في الشرق الأوسط إنّ لبنان بشكله الحالي يشكّل خطراً على أمن المنطقة وأن قيام فدراليات متنوعة أمر ضروري.
وفي نظر الأميركيين أن الفدرالية في لبنان تسمح لهم ببناء قاعدة عسكرية في البترون. وفي حال انسحاب القوات الأميركية المحتلة من العراق، لا بد لها من أن توجد في المنطقة وفي مكان قريب من إسرائيل، في منطقة موالية لها تكون بمثابة قاعدة ثقافية وآمنة يمكن اختراق العرب من خلالها، وهنا تكمن أهمية لبنان الثقافية والأمنية، فهو يصدر كوادر ومثقفين ومفكرين وفنانين إلى الدول العربية، والعرب شديدو التأثر بالنمط اللبناني.
ومن خلال هذه القاعدة العسكرية تستطيع أميركا، أولاً، خوض معركتها ضد الإرهاب في الشرق الأوسط ضمن محيط مسالم لها عقائدياً. ويكون أساس هذا المحيط كياناً فدرالياً مسيحياً يحكمه نفوذ أميركي حليف للغرب، يشكل جسراً بينه وبين الشرق الأوسط من دون تكلفة باهظة. فبحسب رؤيتهم الجيوسياسية من يسيطر على لبنان يسيطر على الشرق الأوسط. ثانياً، محاصرة حزب الله ومراقبته بشكل مباشر وقطع الصلة بينه وبين إيران وسوريا. وثالثاً، تحريك الساحة الفلسطينية من خلال لبنان وذلك للتداخل الجغرافي والعائلي بين تلك الدول.
ويقتضي المشروع الفدرالي الأميركي في لبنان تقسيمه إلى أربع فدراليات:
1 ــ الفدرالية المسيحية وهي الأساس، وقد خطط لها في الثمانينيات الإسرائيليون بالتنسيق مع القوات اللبنانية وهي خطة «حالات حتماً». وتمتد من المتن إلى الشمال مروراً بالأرز حتى حدود المدفون.
2 ــ الفدرالية الدرزية وهي في الأساس مشروع نتنياهو الذي يهدف إلى إقامة حزام من الفدراليات حول إسرائيل. وتمتد هذه الإمارة الفدرالية في شرق لبنان من حاصبيا حتى الجولان ومزارع شبعا. وسيتم تحريك الملف الدرزي بعد إدخال دروز فلسطين وسوريا في الإمارة الدرزية.
3 ــ الفدرالية السنية وهي الإمارة الأضعف، ذلك أن حدودها تقتصر على منطقة الشمال وعكار، من دون بيروت التي ستكون عاصمة لامركزية كما بغداد.
4 ــ الفدرالية الشيعية وتمتد من الجنوب إلى البقاع عبر سهل مرجعيون. إلا أن هذه الفدرالية تشكل خطراً على أمن إسرائيل، لذلك سيتم محاصرتها وتحجيمها بالفدراليات المعادية لها. أما بالنسبة إلى كيفية تحقيق هذا المشروع فسيناريو العراق سيتكرر في لبنان، حيث إنّ غرف الموت في العراق التي تخطط وتنفذ اغتيالات واعتداءات، ستكون هي نفسها في لبنان. «وهكذا من أجل تسهيل عمل القوى التحررية، ولتحصيل نتائج مرجوة في وقت قصير، يجب بذل جهد خاص للتخلص من قياديين بارزين. ويجب أن تتم عملية إلغائهم في بداية الثورة. ولكي تتحقق هذه الخطة، يجب أن نُوهم الرأي العام بأن دمشق وراء هذه المؤامرات والاغتيالات ضد الدول المجاورة. إن الـCIA والاستخبارات البريطانية ستستخدم كلّ إمكانياتها النفسية والعملية لشحن الجو. ويتحقق الانقلاب أيضاً من خلال إنشاء لجنة باسم سوريا الحرة ومن خلال تسليح فئات سياسية لديها قدرات عسكرية».
هذا الكلام ليس تحليلاً بل إنه وثيقة تلخص بشكل واضح ما يجري الآن في لبنان وفي منطقتنا، وهي تعود في الحقيقة إلى عام 1957!!! أي عشية انتفاضة 1958 في لبنان! وقد اكتُشفت أخيراً ونُشرت في جريدة le monde diplomatique ووافق وقتها عليها الرئيس الأميركي دوايت آيزنهاور ورئيس الوزراء البريطاني آنذاك هارولد م.
وبكلام آخر، إن مشروع اغتيال أي رمز من رموز الطوائف اللبنانية من شأنه أن يحرّك العصبيات المذهبية، في نظر الأميركيين، في بلد يفتقر إلى معنى القومية اللبنانية nation libanaise.
إذاً، تشكل العصبيات الطائفية العمود الفقري للمشروع الأميركي الفدرالي في لبنان. ولا يمكن هذا المشروع أن يبصر النور من دون اغتيالات واضطرابات وفتن وصدامات بدأ الشارع اللبناني يشهدها ويعيشها.. فهل يعي اللبنانيون خطورة ما يحصل؟
*باحثة لبنانية