بولس خلف *
لقد حاولت الولايات المتحدة واسرائيل ضرب الحركات المقاومة في دول المنطقة من خلال المجابهة المباشرة التقليدية. وعلى رغم استخدام القوة المفرطة المتفلّتة من كل الضوابط الأخلاقية والقانونية، واستعمال أكثر الأسلحة تطوراً وفتكاً، فشلت في كسر قوى المقاومة في لبنان وفلسطين والعراق. عندئذ انتقلت واشنطن التي أصبحت تدير المعركة في شكل مباشر فيما احتلت اسرائيل موقع المساند والمنفذ للخطط الأميركية، انتقلت إلى خطة بديلة تتركّز على الحروب الأهلية التي تهدف إلى إلهاء حركات المقاومة وإغراقها في وحول الاقتتال الداخلي ما يسمح بتغيير وجهة سلاحها وإراحة اسرائيل لفترة طويلة.
ولم يحتج المخططون الأميركيون إلى خيال واسع ومبدع للوصول إلى مبتغاهم. فالوصفات التي حضّروها للساحات الثلاث متشابهة إلى حدّ بعيد وهي ترتكز على إشعال نار الفتنة السنية ــ الشيعية. وفي فلسطين، حيث لا وجود للشيعة، استُحضر العامل الايراني عبر اتهام حركة المقاومة الإسلامية(حماس) بأنها مجرد أداة للنظام الايراني. صحيح ان تحضير الأرضية والنفوس لإنضاج ظروف الحروب الأهلية في لبنان وفلسطين والعراق قد بدأ عملياً منذ مطلع العام الفائت. وقد ظهرت الإشارات الأولى في لبنان من خلال الكلام المذهبي الذي أطلقه بعض أركان فريق الرابع عشر من آذار في دوائر ضيقة أولاً، ما لبث أن أصبح علنياً. حرب تموز 2006 كانت بمثابة المحاولة الأخيرة لكسر المقاومة بطريقة مباشرة وتقليدية.
فشل إسرائيل في إتمام المهمة الموكلة إليها على رغم استعمال كل ترسانتها التسليحية التقليدية عزز القناعة عند الأميركيين بضرورة الانتقال إلى الخطة البديلة. وما توسّع دائرة الاقتتال الداخلي الفلسطيني، وتعميق الشرخ المـــــــــــذهبي فـــــــــــــي العراق، ووصـــــــــــــول الأمـــــــــــــــــور في لبنان إلى حدّ الانفجار الكبير، إلاّ دلالات على طبيعة ما تريده أميركا. في كل من الساحات الثلاث هناك من يمكن تسميته «معتمد الحرب الأهلية». هو شخصية دينية أو سياسية، أو حزب سياسي، قرر الانخراط في الخطة الأميركية عن سابق تصوّر وتصميم في معظم الأحيان. دوره مركزي لأنه قبل تحليل المحرّم، أي استخدام السلاح في محاولة حسم الخلافات مع خصومه في الداخل، مع علمه المسبق بأن «الحل العسكري» في المعادلات الداخلية هو شبه مستحيل. غير أن قاعدة استحالة إلغاء الآخر لم تمنع معتمدي الحروب الأهلية، وهم غالباً ممن خاضوا هذه التجربة المريرة سابقاً، من المضي قدماً في المشروع الأميركي.
لعل أبرز دليل على أن الولايات المتحدة قررت دفع الأمور في لبنان نحو الحرب الأهلية هو تشجيعها المجموعة الحاكمة على نسف المنطق التسووي الذي قامت عليه البلاد منذ نيلها استقلالها، وإجهاضها لكل المبادرات، ولا سيما تلك التي قام بها الأمين العام لجامعة الدول العربية عمرو موسى. ويأتي في هذا الإطار كلام لافت للسفير الأميركي جيفري فيلتمان، يوم الجمعة الماضي، حيث نفى وجود مبادرة سعودية ــ إيرانية. ويدل هذا التصريح على أن أميركا ليست مسرورة بالمباحثات الجارية بين طهران والرياض حول مواضيع إقليمية، ومن بينها الملف اللبناني. ولو أرادت الولايات المتحدة التهدئة في لبنان لكانت استخدمت لغة ديبلوماسية مختلفة تشجع على إيجاد حل سياسي للأزمة الحالية. ولكن المعلومات المستقاة من مصادر مختلفة تؤكد ان السفير فيلتمان يعمل على تحريض أقطاب الرابع عشر من آذار ويحثهم على عدم القبول بتقديم تنازلات إلى المعارضة، مقدماً لهم ضمانات بأن بلاده ليست في وارد التخلي عنهم في إطار أي تسوية إقليمية.
هناك مؤشرات أخرى تعزز المخاوف من أن الولايات المتحدة لم تعد تعتبر أن الاستقرار في لبنان يخدم مصالحها. لقد أكدت تقارير صحافية أن الإدارة الأميركية قررت القيام بأعمال أمنية في لبنان. وكان آخرها المعلومات التي نشرتها الواشنطن بوست من أن الرئيس جورج بوش أعطى الضوء الأخضر لتنفيذ عمليات ضد حزب الله. وقبلها، أكدت الصحيفة البريطانية «ذي دايلي تلغراف» ان الرئيس الأميركي أمر وكالة الاستخبارات المركزية الـCIA بتقديم الدعم لحكومة الرئيس فؤاد السنيورة. وفي هذا الإطار تؤكد المعلومات المستقاة من مصادر مختلفة أن أجهزة الاستخبارات الأميركية جنّدت مجموعات من الوحدات الخاصة في القوات المسلحة للقيام بأعمال محددة تخدم الأهداف الأميركية الجديدة، على ان تُموّل هذه العمليات من الأموال الطائلة التي تحوّل من عائدات النفط العراقي في شكل غير مشروع، كي لا تضطر الإدارة الأميركية إلى أخذ موافقة الكونغرس على هذه العمليات الخاصة.
مهما كانت إرادة إشعال فتيل الحرب الأهلية قوية في الخارج وبعض الداخل، فلن تتوافر لها عوامل النجاح ما دامت السلطة المركزية في لبنان متماسكة. لذلك، تشهد البلاد منذ عدة شهور عمليات تسليح وتدريب واسعة بمساعدة بعض الدول العربية. وقد ظهرت ثمارها خلال أحداث الخميس الماضي، حيث رصدت استخبارات الجيش أسلحة جديدة دخلت ميدان الصراع بكميات كبيرة. في موازاة ذلك، لم تحرك الولايات المتحدة ساكناً أمام عملية تقويض منهجية للمؤسسات الدستورية، مع ما يحمل ذلك من معان في إضعاف الدولة المركزية، بل على العكس تشجع واشنطن الفريق الحاكم على التمادي والاستمرار في تدمير ما تبقى من مؤسسات سياسية، وقد يكون المجلس النيابي الضحية المقبلة لهذا النهج. ولكن أخطر ما في الأمر هو بدء حملة مبرمجة ضد الجيش اللبناني بهدف ضرب صدقيته مقدمةً لدفعه إلى الانكفاء والعودة إلى ثكناته. عندئذ تخلو الساحة من آخر مؤسسة جامعة لكل اللبنانيين وتحل مكانها الأحزاب المكونة للسلطة والتي لها تاريخ ميليشياوي حافل. وما يدعو للقلق هو أن السفير جيفري فيلتمان لم يخف انتقاده لأداء الجيش اللبناني خلال مقابلة مع محطة تلفزيونية أميركية. هذا التصويب المركّز على المؤسسة العسكرية التي آلت على نفسها اعتماد موقف حيادي حيال ما يجري بين القوى السياسية المتخاصمة، بدأت به صحيفة خليجية دأبت، في الأشهر المنصرمة، على نشر أخبار تصب في خدمة فريق السلطة في لبنان.
على عكس كل القوى العظمى التي مرّت عبر التاريخ، تعتبر الولايات المتحدة الأميركية أن اللااستقرار أصبح يخدم مصالحها الاستراتيجية. لقد دخل لبنان اليوم فعلاً عصر الفوضى البناءة التي لن تبقي حجراً على حجر.
*كاتب لبناني