ماجد عزام *
ارتبطت مدينة مكة في الوجدان العربي الإسلامي بصفتها قبلة المسلمين ومنبع الدعوة الإسلامية، غير أن ثمة معنى أو بعداً سياسياً لهذه المدينة المقدسة تكرّس في العقل الجمعي العربي والإسلامي خلال العقود الماضية ويتمثل في تحوّلها إلى مكان لاجتماع القادة العرب المسلمين المتورّطين في أشكال مختلفة من النزاعات والخلافات والاقتتال الداخلي الذي يلامس حدود الحرب الأهلية. حصل هذا في التسعينيات مع القادة الأفغان، وحصل منذ أشهر مع بعض القادة العراقيين، وسيحصل في الأيام المقبلة مع القادة الفلسطينيين بعد الدعوة التي وجّهها الملك السعودي عبد الله بن عبد العزيز لقادة حماس وفتح للالتقاء في المدينة المقدسة واستغلال مهابتها الدينية والمعنوية والروحية من أجل حلّ خلافاتهم ومشاكلهم الداخلية.
إذاً من حيث الشكل ومع كل التقدير للنيات السعودية الطيبة، نحن وحسب السياق التاريخي أمام اعتراف غير مباشر بالانزلاق الفلسطيني نحو درجة عالية من الاقتتال الداخلي تلامس في الحقيقة حدود الحرب الأهلية. ويفترض أن يشكل هذا الأمر حافزاً إضافياً من أجل التدخل لحل الخلافات الفلسطينية المستحكمة والمتأججة واستنفار كل القدرات السعودية على مختلف أنواعها للتأثير في الفلسطينيين ومساعدتهم على الخروج باتفاق يقيهم من كوارث الحرب الأهلية وويلاتها. وأعتقد أن ثمة عوامل أو حيثيات يجب أخذها في الحسبان من أجل تلافي الفشل وتهيئة الظروف أمام خروج لقاءات مكة باتفاق واضح المعالم وقابل للحياة والتنفيذ على أرض الواقع.
أول هذه العوامل أن ثمة انقلاباً قد نفّذ بالفعل على الساحة الفلسطينية. فقد قامت قوات الحرس الرئاسي وقوات الأمن في الوطن بالانتشار في قطاع غزة، عملياً أحكمت سيطرتها عليه ولم تكن أبداً محايدة خلال النزاعات والاشتباكات الأخيرة، ناهيك عن أن الدستور والقانون الأساس ينيطان مهمة حفظ الأمن الداخلي بقوات الشرطة المرتبطة بوزارة الداخلية، وكنا نتمنى لو نزلت هذه القوات على الأرض لحفظ الأمن وحقن الدماء ووقف الاقتتال، إلا أنها في الحقيقة جاءت لنصرة فريق على فريق ولإظهار الحكومة عاجزة عن حفظ الأمن وفرض النظام. هذا المشهد قد يعطي الانطباع بأن ثمة انتصاراً لفريق على فريق جد خطير، وخاصة إذا ما أُريد للقاء مكة أن يكرس هذا الأمر ويترجمه عبر اتفاق مختل وغير متوازن.
ثاني العوامل التي يجب أخذها في الحسبان هو خريطة طريق للخروج من المأزق الحالي تكون واضحة أو يفترض أنها كذلك، وتتضمّن تأليف حكومة وحدة وطنية تستند بشكل رئيسي ووحيد إلى وثيقة الوفاق الوطني التي تمثل الحد الأدنى للإجماع الفلسطيني، وبالتالي فلا داعي لطرح أي شروط أو محددات ووثائق إضافية. وكما اتضح من تحربة الفترة الماضية فإن الإصرار على طرح الشروط وخاصة الأميركية الاسرائيلية أدى إلى مزيد من التشنّج وارتفاع وتيرة الاقتتال الداخلي لدرجة تلامس حدود الحرب الأهلية. وثمة اعتقاد على نطاق واسع ان وثيقة الوفاق الوطني في إطارها النظري على الأقل قدمت الحلول والرؤى والتصورات القادرة على تجاوز المأزق الحالي وصولاً إلى بلورة تصور فلسطيني موحد تجاه المستقبل، وتحديداً تجاه طرق حل الصراع مع اسرائيل.
ثالث هذه العوامل هو حل المشكلة أو المعضلة الأمنية التي لن يكون في إمكان حكومة الوحدة الوطنية النجاح وتحقيق الإنجازات من دون حلها. وهذه المشكلة تتمثل في طبيعة العلاقة بين وزارة الداخلية والأجهزة الأمنية التابعة لها وتلك التابعة للرئاسة الفلسطينية. واذا كان ثمة اتفاق على تولّي شخصيات مستقلة للحقائب الوزارية الرئيسية، وخاصة وزارة الداخلية، فإن هذا لا يستقيم مع هيمنة الشخصيات والقيادات الفتحاوية على معظم الأجهزة الأمنية ومع تحوّل الحرس الرئاسي بدعم عربي وغربي إلى قوة أمنية ضارية لا مثيل لها ولا كابح لها أيضاً. إن هذا الواقع يقضي بإخراج الأجهزة الأمنية من التجاذب والنزاع السياسيين وخروج كل الشخصيات والقيادات الحزبية منها وإعادة تكوين هذه الأجهزة على أساس وطني ومهني، لا حزبي وفصيلي، مع تفعيل مجلس الأمن القومي كمجلس مختص بوضع الاستراتيجيات والسياسات والخطوط العريضة لعمل الأجهزة الأمنية ومهماتها، غير أن إعطاء الأولوية للمدخل الأمني تنبّه من الواقع الميداني المستجد، إذ لا يجب ان يحجب الأبعاد أو الجوانب السياسية لأي اتفاق أو تفاهم منتظر حيث حكومة الوحدة الوطنية ستكون مستنزفة ومشغولة بالوضع الداخلي، وعلىه يجب أن تُعطى حرية التفاوض والاتصالات السياسية للرئيس محمود عباس لأجل محدد بعام إلى عامين تقريباً، أي حتى نهاية عام 2008، بحيث يتم بعد ذلك اللجوء إلى انتخابات عامة رئاسية وتشريعية في أجواء هادئة وغير متشنجة، ويقوّم الشعب الفلسطيني إنجازات أو حصيلة هذين العامين ويعطي ثقته أو دعمه لأي من الخيارات والاتجاهات والسياسات التي يراها منسجمة مع آماله وطموحاته الوطنية.
مهلة العامين لا تُطرح اعتباطاً ولكن انعكاساً لما يقال عن رغبة أميركية وإقليمية جامحة في التوصل إلى حل نهائي للصراع في فلسطين المحتلة خلال العامين المقبلين، وعلى ذلك ستتحول الانتخابات الفلسطينية إلى استفتاء بل إلى اتفاق محتمل على الخيارات التي اتبعت وما زالت خلال العقدين الماضيين، وبدت نتائج الانتخابات التشريعية والرئاسية الماضية كأنها تقدم تقويمين متناقضين من الشعب الفلسطيني للتطورات والأحداث التي عاشتها القضية خلال الفترة الماضية وتحديداً خلال السنوات الست الماضية.
أخيراً، لا بد من الإشارة والتأكيد أن أي حل جزئي للأزمة الفلسطينية لا بد من ان ينتج حواراً مباشراً وصريحاً ومفتوحاً وجدياً بين قيادتي فتح وحماس، ومع كل الاحترام للوساطات التي جرت في الفترة الماضية إلا ان معظمها كان ذا طابع استعراضي وإعلامي. فلقاء مكة يفترض ان يمثل الفرصة للوصول إلى تسويات وحلول وسط ولو مرحلية بما يغطي السنتين المقبلتين على ان يتم الرجوع إلى الشعب الفلسطيني صاحب المرجعية العليا للحسم والفصل، وإذا ما سارت الوساطة التي تقوم بها السعودية على هذا الأساس، فإن لقاءات مكة قد تحقق على السياق الفلسطيني ما عجزت عن تحقيقه في الماضي سواء على السياق الأفغاني أو العراقي.
* مدير مركز شرق المتوسط للصحافة والإعلام