ناصيف قزّي *
ظننت، بعد حرب تموز العدوانيَّة، أني شفيت من الهزيمة، تلك التي لاحقتني منذ عقود، أي منذ الخامس من حزيران عام 1967، يوم فاضَت على سطح وعيي الفتيّ أسئلة... ظلّت بلا إجابات.
ظننت أن ملحمة البطولة «التمّوزيَّة» فوق أرض الجنوب أنقذتني من التنين... ذاك المتربص بي على حافة هذا المشرق، منذ ألفين.
ظننت أن براءة الشهادة في قانا ومروحين وبقية الوطن، ستُحيي ما تبقّى في هذا العالم السائب من ضمير، عالم ما بعد سقوط القيم... فتمحو كل إثم علق في ذاكرتي منذ نيف ونصف قرن.
حتى إن ذاكرتي الموشومة تلك، ذهبت بي الى أبعد من ذلك، لأظنّ أن سيوف المقاومة وراجماتها انتقمت لغولييت وثأرت لأحيرام... ولكل دم بريء أهرق منذ أن أُطلق ذلك الوعد المشؤوم، وعد بلفور، في مطلع القرن الماضي.
لكني سرعان ما اكتشفت، وأنا في نشوة الانتصار، أن مخالب التنين عادت وخرجت، كما بعد كل جولة، من بطن الأرض هنا وهناك، على امتداد هذا المشرق... لتحاول محقي من جديد. وكان أن امتُهنت الكرامات وسيقت الاتهامات من هنا وهناك ضد المقاومة وسيدها وضد «وعدها الصادق»، من غير موقع دولي وعربي، وكذلك من أهل السلطة في لبنان... السلطة التي خرجت على الدستور وعلى المواثيق والأعراف، لترتكز، كما هو معلوم، على اجتهادات خاطئة وعلاقات متحيِّزة وقرارات ملتبسة، أقل ما يقال فيها، إنها تتعارض، ليس مع حقيقة ما يجب ان يكون عليه لبنان فحسب، بل مع مساره التاريخي الميثاقي ومع نبض الناس فيه.
عدت الى نفسي، لأبحث في ثنايا معرفتي عن الإنسان، ذاك الذي يُراد لي أن أكونه في هذا المشرق المخضّب بالدماء من فلسطين الى العراق مروراً بلبنان.
عدت الى نفسي واستكنت، لعلّ الساسة والحكام يفقهون ما فقهه الناس إثر حرب تموز، فيدركون أنه بات في إمكاننا، نحن اللبنانيين، بعد كل ما جرى، أن نشترك، أقوياء موحَّدين، في صياغة الزمن المشرقي الجديد الذي يُعدُّ لنا ولشعوب من حولنا.
لكن عجقة في المدينة، سرعان ما حوّلت انتباهي، فتِهت عن تأملاتي لأسمع أصواتاً غير واضحة تتعالى، وصراخاً يتعاظم.
ماذا جرى؟ جريمة في وضح النهار: وزير الصناعة بيار الجميّل... شهيد آخر ينضمّ الى قافلة شهداء الوطن الأبرار.
خرجت الى الشارع حزيناً، كما كلّ الناس في تلك اللحظة، ألطّفُ الخواطر والنفوس بين أفراد جماعة أرهقها، الى حروب الآخرين على أرضنا، ما شهدته في صفوفها من انقسامات وصراعات وفتن لفترة طويلة من الزمن، ظننا أنها ذهبت الى غير رجعة.
لكن الصراخ ظلَّ يتردّد ويتعالى حتى بدأت تتّضح لي الكلمات. أدركت فجأة أن أبواق الفتنة والتفرقة باتت بين الجدران، وأن ألسنة مسعورة حتى الكفر تخرق المحظور، في الشارع وعلى بعض الشاشات، فتنكأ الجراح، تُغرِض النفوس، وتوجّه الاحتقان الشعبيّ ضد أنزه الرجال وأصدقهم فكراً وممارسة... ضدَّ الجنرال ميشال عون وتيّاره الوطني الحرّ. حتى إن كل الدعوات الى التأمل والصلاة وضبط النفس، لم توقف مسلسل الاعتداءات وتمزيق الصور والشعارات... ناهيك من البيان ــ البلاغ الذي أتحفتنا به، بُعيد الجريمة النكراء، جماعة ما يسمى «قوى الرابع عشر من آذار».
طبعاً، كان لا بد لزعيم التيّار السياديّ الرائد، بعد أن استفحلت الأمور، وبعد أن تمادى أهل السوء في التضليل، كان لا بد له، وبعد أن صبر على الحماقات كلها، من أن يدعو الجميع، ومن منطلق وطني كبير، وبروح أبوية نبيلة، الى التبصّر والحكمة، محذّراً قصيري النظر من الفتنة، ومذكراً بالجرائم السياسيَّة التي وقعت في لبنان وما كان يعقبها من اضطرابات، منذ اغتيال الصحافي نسيب المتني عام 1958 وما تبعه من أحداث، الى اغتيال الرئيس بشير الجميل عام 1982 ومجزرة صبرا وشاتيلا، مروراً باغتيال الزعيم كمال جنبلاط عام 1977 ومجزرة الجبل، واغتيال الوزير طوني فرنجية وعائلته عام 1978 ومجزرة القاع والحرب على الأشرفية.
وعلى الرغم من هذا التحذير، ظلَّت العجقة في المدينة، ليستفحل السُباب ساعة التشييع، فيطغى صراخ الفريسيّين على صلوات الأحبار والكهنة والمؤمنين وتضرّعاتهم... وكان في الساحة من الحقارة ما يكفي، لجهة الإهانات التي أطلقها بعض المشاركين في التشييع، والتي طاولت بعض الشرفاء من أبناء الوطن، ما يكفي لإعادة تصنيف بعض الفئات السياسيَّة المنضوية إلى ما يسمى «قوى الرابع عشر من آذار»، خارج دائرة الأخلاقيَّات السياسيَّة.
هكذا، فبقدر ما حزنتُ من الفاجعة التي حلّت باستشهاد الشيخ بيار، غضبت من المواقف التحريضيَّة الرخيصة والسلوكيات الدنيئة، تجاه من دعا إلى أن تكون شهادة بيار «خلاصيّة»، واتّهم الحكومة اللبنانيَّة بالتقصير، مصراً على كشف الجريمة التي ارتُكبت بدم بارد، في وضح النهار، وعلى يد جناة مكشوفي الوجوه.
شعرت بالحزن، تماماً كما شعرت يوم تعرّض بعض أصحاب السلطة والمتسلطين وأمراء الحرب وأتباعهم للمقاومة وسيّدها بالمهانة... وقد حدث ذلك حتى قبل أن يغمر التراب جثامين شهدائها.
وأنا في هذا الجو المشحون بالأحقاد، وسط واقع شعبي غاضب ومصدوم، وفي ظل سياسة حكومية استئثاريَّة متباكية وملتبسة، انتظرت صوتاً ما من مكان ما، يعيد الأمور الى نصابها... لكني عبثاً انتظرت، فكنت كمن يبحث عن قبعة سوداء في غرفة مظلمة لا وجود لها. وما إن سمعت صوت كاهن أنطاكيا وسائر المشرق، المتربّع على عرش كنيسة الرجاء، ما إن سمعتُه ينبئ بزمن البؤس والفرقة، حتى عََظُمَ خوفي من التنين.
وكما في أزمنة النكبات، لم يكن لي سوى أن أردّد مع المخلِّص، قُبيلَ تمجُّده على الصليب: «ربي... ربي... لماذا تركتني؟»... لعلّي بهذا الكلام أسترجع وعيي والرجاء، فأستنهض الهمم من حولي، كي لا يُظنَّ أن ما يدور هو عَود على بدء، وأن طواحين الطوائف وأهراءات الحقد المعشعش في عقول بعض أمرائها، عادت الى العمل من جديد.
عدت الى نفسي ثانية، أسأل وأتساءل، كما كنت أفعل في زمن النكبات التي مرّت على لبنان، وكما لو كانت المسألة كيانيَّة بامتياز، عدت أسأل وأتساءل، ما إذا كان يَعقُلُ أن يكون للشيطان زمن...!؟ وذلك على الرغم من قناعتي، وبحدس لا يعتريه شك، بأن الزمن هو زمن الروح.
كثيرة هي العلامات والدلالات التي تنبئ بالمعاصي والشرور، من محاولات زرع الفتنة هنا وهناك، الى قلب الحقائق والمعادلات وترويج الأكاذيب وتشويه القادة الشرفاء، مروراً بما يشاع عن وجود أسلحة وشبكات وشبهات... وما الى ذلك من تناغمات دولية وإقليمية ومحلية مكشوفة لضرب قوى الممانعة الحقيقيَّة في لبنان، وبالتالي تمرير التسويات والمؤامرات، من التوطين الى الكانتونات مروراً بإعادة ترتيب التوازنات والاصطفافات. كل ذلك يجري، ويا للأسف، تحت ستار ما اتُّفق على تسميته «ثورة الأرز» و«انتفاضة الاستقلال»، وما الى ذلك من شعارات أفرغتها الوقائع من مضامينها الحقّة. حتى إن شهداء تلك «الانتفاضة» أنفسهم، أولئك الذين أقسموا لسيادة لبنان ووحدة أرضه وكرامة شعبه، باتوا يسألون من عليائِهم، وفي ضوء ما ينضح به الناس في الشوارع والساحات، عن حقيقة ما يدور في عتمة كواليس السلطة وقبورها المكلسة.
ألا تثير سياسة الفريق الحاكم، في ظل المتغيرات الإقليميَّة والدوليَّة وما تحمله من مشاريع ومخططات، وبغض النظر عن كل المخالفات الدستوريَّة والقانونيَّة وما إليها، ألا تثير الشبهات؟
بالله عليكم، هلا شرحتم لنا ما معنى أن يكون «لبنان أولاً»؟
ألا يعني ذلك ان لبنان هو لبنان الميثاق، لبنان الوحدة والعيش المشترك، لبنان التوافق والشراكة؟
ألا يعني لبنان أولاً، أن تسقط حكومة أحادية فقدت شرعيتها الدستورية لألف سبب وسبب، حكومة منبثقة من أكثرية مطعون بها، يساندها إعلام موجّه ورخيص، وساسة للزمن الرديء بنوا أمجادهم على الضريح، وفي بلاطات آل الضريح؟
فإذا كان حقاً لبنان أولاً، فهذا يعني أن يكون لبنان، الوطن النهائي لكل أبنائه، الحقيقة الأولى التي ندافع عنها، والتي تسقط، عند تعرضها لأي اهتزاز، ما عداها من حقائق... فالمعركة الحقّة هي معركة الشراكة، وإقصاء بعض الوطن جريمة تصل حد الخيانة... فكيف إذا طاول الإقصاء غالبية الوطن؟
إن ما لحق بالوطن من ضرر مادي ومعنوي، تسببت بهما أكثرية وهمية استأثرت بالسلطة وتفردت بالقرار، فعقدت اتفاقات دولية، مالية وسياسيَّة، وتحالفات، وأسست لعداوات وخصومات تخطت المحظور في الداخل لتصبح مشروع فتنة، إن ما لحق بالوطن من أضرار، لهو أخطر بكثير مما حلَّ به طوال سني الحرب.
وبعد، فإذا لم يكن هناك التزامات وارتهانات، فلماذا لا تكون إذاًً حكومة وحدة وطنية، منطلقاً لإعادة البلاد الى وضعها الطبيعي؟ ألا يحق لنا أن نغضب، وأن يكون غضبنا مقدساً؟
«الغضب المقدس»...! الى كونه صرخة في وجه تجار الهيكل والمشككين، فإنه عنوان المرحلة... إنه الحب الأسمى للوطن الأبهى. وكم تجلى هذا الغضب في بحر جموع «التغيير والإصلاح» و«التحرير»، الهادر نحو الساحات في وجه التسلط والتفرد والارتهان، ليبقى لبنان وطن الشراكة والإنسان.
هو هذا «الغضب المقدس» الذي سيقلب كل المعادلات فيعيد الى لبنان ميثاقيَّته البنّاءة ووحدته الحقيقيّة، ليعيد معه الزمن الى حضن الإله... إله المحبة، الرحمن الرحيم... ويعيد لوسيفوروس الى الجحيم. إنها ساعة الحقيقة تدقّ، وسيدرك الناس في نهاية المطاف، أنه ليس للشيطان زمن، وأن المزوّرين والمنافقين والمندسين والمتعاملين والمارقين، هم هالكون لا محالة. سيدرك الناس، ومعهم الأجيال المقبلة، أن بعض الرجال، وفي مقدمهم السيد حسن نصر الله والجنرال ميشال عون، ثنائي التفاهم التاريخي، ليسوا من صُنع التاريخ اللبناني العظيم فحسب، بل هم ممن يَعظُمُ بهم هذا التاريخ. فأصحاب السير الناصعة كثلج لبنان، والقناعات التي لها قوة الشريعة والناموس، هم بنات الوطن. إنهم عن حق من سلالة يوحنا مارون، البطريرك المؤسس، والإمام الأوزاعي، والأئمة العامليين... وفخر الدين. أما أنتم، يا أيها الفاسقون من أهل السلطة، فيعلم الناس بحدسهم البسيط، ماذا سيكتب عنكم التاريخ...!؟
* أستاذ الفلسفة في الجامعة اللبنانيَّة