إلهام منصور *
يعتقد من استعمل كواتم الصوت في جريمة اغتيال الشهيد بيار الجميل أنه يستطيع تمرير لعبته المكشوفة بالخلط بين الصوت والمنطق. فإذا كان لمنطقه أداة واحدة هي الصوت فبئس هذا المنطق وبئس صاحبه. ألا يدري أنه في لجوئه الى هذا الأسلوب (وقد سبق للبلد، كل البلد، أن ضج بقصة وصول الكواتم وبمكان وصولها) كمن يدفن رأسه في الرمال متوهماً أنه لا أحد يراه. إنه بسذاجته يعتقد أن كتم الصوت هو إطفاء للعين أي للمنطق الذي يحرّكه في الوصول الى الغاية التي يبتغي ولو على حساب حياة زهرة من أزهار هذا الوطن، على حساب شاب ما زال في بداية حياته الفعلية والسياسية. هل اغتيال بيار الجميل برصاص مكتوم الصوت يغيّب فعلاً الآلية والهدف اللذين أوصلا القاتل الى جريمته؟
صحيح أن الشعب العربي عامة هو شعب «صوّيت» يؤخذ بضجيج ودويّ الكلمة أكثر مما يؤخذ بمعناها ومضمونها، غير أن هذا الشعب لا يخلو من العقلاء الذين لا كواتم لمنطقهم الذي يبقى فعالاً مهما علا الضجيج أو كتمت الأصوات. وبين الشعب اللبناني الكثير من هؤلاء العقلاء الذين يجيدون قراءة المنطق من خلف الصوت المكتوم لكن القاتل. فكل من هزّه الحدث الجلل استطاع أن يرى بوضوح كل ما هو وراءه، وأن يسمع الصوت الذي حاولوا إلغاءه، وأن يتتبع المنطق الذي حرّك الأصابع التي شدت على الزناد غدراً، وهو المنطق الذي حاولوا، بكواتمهم، تغييبه أو تعديله أو إفساد قراءته. ماذا يفعل الصوت وكيف يتحرك المنطق؟ الصوت يحدث انفعالاً فيزعج أو يطرب السامع، أما المنطق فيطرح أسئلة ولو أنه لا يستطيع الإجابة عن بعضها، مع العلم أن طرح السؤال هو أحياناً أهمّ من إيجاد الجواب. وفي عملية اغتيال الشاب بيار الجميل خنقوا الصوت ظناً منهم أنهم يلغون المنطق الذي خيّب ظنّهم واستنفر منذ اللحظة الأولى ليقوم بدوره، وباشر بطرح أسئلته، فماذا قال؟ أول سؤال أتاه مباشرة هو لماذا بيار الجميل وهو الشاب النشيط في حزب الكتائب والذي يهيأ لدور قيادي كبير؟ لماذا اختيرت تلك اللحظة بالذات لاغتياله والكل يعلم ماذا كان يحضّر؟ لماذا استعمال هذه الطريقة في الاغتيال وهي طريقة المستعجل الذي لم يكن لديه وقت لاستعمال غيرها؟ ثم المكان، وهو سؤال بديهي إذ إنه اختير لتسهيل عملية الهروب بعد ارتكاب الجريمة وهذا يعني أن المجرمين المنفذين يعرفونه جيداً. ثم ما معنى ردة الفعل المبرمجة التي تلت الجريمة وضد من؟ و... أخيراً ما هو الهدف النهائي من الجريمة والبلد هو ما هو عليه من التوتر والانقسام السياسي؟
كل هذه الأسئلة وغيرها، ربما، يضعها المنطق بين أيدي الأب المفجوع وهو من العقلاء في هذا البلد وهو الذي أتت ردة فعله الأولى كبيرة وراجحة رجاحة العقل قبل أن يندس الى حركة منطقه بعض «المحبين» من أمثال فيلتمان وغيره.
ربما تغلّبت دولة المنطق على دولة الجريمة والاغتيال. وربما أنقذنا ما تبقى من هذا الوطن الذي لا ترى فيه الآنسة رايس إلا رحماً لولادة الشرق الأوسط الجديد أو الكبير أو... من دون التفكير، ولو للحظة، بأنه الوطن الذي، إن حسُنت النيات، يجب تعميم نموذجه على كل المحيط الإقليمي والعربي.
* استاذة في الجامعة اللبنانية