ديمة ونوس *
ذلك المساء، لمحت على التلفاز امرأة فلسطينية ستينية تقرأ وصيتها. كانت فاطمة التي فجرت نفسها وسط تجمع لجنود الاحتلال شرقي جباليا. أحزنتني كهولتها، وبريق عينيها الباهتتين المتمسكتين بالحياة. كيف استطاعت أن تودع منزلها للمرة الأخيرة، إن كان لديها منزل أصلاً. كيف استطاعت التخلي عن حياتها بهذه البساطة، إذا افترضنا أن حياتها تستدعي البقاء. كيف امتلكت جرأة الوقوف أمام الكاميرا، لتقرأ سطورها الأخيرة، لتلمح لآخر مرة وجهها المحفور بالبؤس. لماذا لم نشاهد حتى الآن أي قائد أو زعيم حركة يقرأ وصيته الأخيرة على التلفاز قبل أن يموت. لماذا الزعماء السياسيون والقادة العسكريون لحركات المقاومة الإسلامية في فلسطين أو في العراق يعتقدون أن حياتهم أثمن من حياة الشعب المجيش والمدجن والبائس. لماذا يكتفي القادة بالدعوة إلى الجهاد وبتحفيز المواطن على التخلي عن حياته على الأرض ليدخل حياة خالدة تضج بالمتع. لماذا لا يجاهدون هم ويدخلونها.
ذلك اليوم وكل يوم، تنشغل المحطات التلفزيونية العربية بشتم العدو الأميركي الذي غرق في مستنقع العراق وخسر كل رصيده المادي والبشري والسياسي. تتحدث عن العزلة التي يعيشها الرئيس الأميركي بعد فشل مشروعه الغاشم في أفغانستان. تحكي لنا حكاية التورط الأميركي في لبنان وطمع هذا العدو بثروات أوطاننا التي لم يرَ الشعب منها شيئاً حتى الآن. فالشعوب العربية تناضل أيضاً كالعدو بالضبط لتتمتع بهذه الثروات. ذلك الصباح وكل صباح، ينشغل الإعلام العربي بالحديث عن منع الحجاب في بريطانيا، وعن قمع الحريات الذي تعانيه النساء المسلمات هناك. ينشغل بالحديث عن الفتاوى الدينية التي يصدّرها رجال الدين كلّ على هواه. يروون للمشاهد العربي أهمية التقرب من الله لمواجهة العدو. يدعون المسلمين إلى الجهاد والمقاومة في سبيل الله. يتحدثون عن الولايات المتحدة الأميركية الكافرة التي لا تمتلك حضارة ثقافية أو فكرية أو وطنية. تستضيف المحطات الرسمية بفخر، كتّاباً ومفكرين أميركيين ينتقدون في كتبهم ومقالاتهم ومحاضراتهم إدارة الرئيس الأميركي جورج بوش التي خرّبت العالم لأهداف استعمارية، يشتمون رئيسهم الذي لا يميز حتى الآن بين المقاومة والإرهاب. يستضيفونهم من دون أن يذكروا على الأقل أن هؤلاء الكتّاب صنعوا ثقافة الاختلاف ودافعوا عنها من دون أن يسجنوا.
في صباح من الصباحات، أعلنت المحطات العربية حقيقة ما يجري في سجن أبو غريب العراقي. استضافت محللين سياسيين عرباً وأميركيين وأوروبيين للحديث عن تلك الفضيحة، متجاهلة أن صحافة العدو ووسائله الإعلامية هي من تسببت بتلك الفضيحة. هي من كشفت التجاوزات التي تقوم بها الإدارة الأميركية، إدراة وطنها. لم تعبأ وسائل الإعلام العربية بمعنى هذا الحدث. لم تخبرنا أن الإعلام الحر والمستقل هو من يساهم في إغناء الواقع وليس الفكر الغيبي. إن الصحافة هي وسيلة حضارية لكشف الفساد ومحاسبة القائمين عليه وليست للتهليل لمنجزات القادة والزعماء.
القدس التي كتب عنها محمود درويش قصائد غزل حرارتها تبكي، والتي غنتها فيروز بصوتها العذب والرصين، لم تنج هي أيضاً من ثقافة الموت والفتاوى الدينية. «إذاعة القدس» (التابعة للجبهة الشعبية ــ القيادة العامة) تبث يومياً برامج دينية تتحدث عن التضحيات التي يقدمها الشعب الفلسطيني لمواجهة العدو. برامج تستضيف رجال دين يتحدثون إلى الجمهور على أثير القدس. يحرضونهم على الموت للفوز ببيت في الجنة، هم الذين لا يمتلكون أرضهم في فلسطين، أو يدعون الشعوب العربية للفوز بمحبة الله، هذه الشعوب الفقيرة والمقموعة. برامج تحكي عن التاريخ الذي خرّبه العدو وحرّف قيمه. برامج لم تتحدث يوماً عن الواقع الذي نعيشه الآن. الواقع الذي سيصبح بعد سنوات تاريخاً لا تملأ صفحاته سوى قصص المجاهدين وبطولات الزعماء. «إذاعة القدس» لم تذكر يوماً التضحيات الفكرية لمثقفي فلسطين الذين قاوموا العدو بكتاباتهم وأغانيـــــــــهم وعروضهم المسرحية ولوحاتهم وأفلامهم الوثائقية. لم تذكر يوماً الثمن الذي دفعه هؤلاء المبدعون الذين همشوا ولم يترك لهم القدر سوى ثلاثة خيارات: إما الثــــــــقافة المبتذلة السائدة التي تروج لــــــــــها الأنظمة الجاهلة وإما ثقافة الجهاد والمـــــوت وإما المنفى.
الإعلام العربي يتحدث بجرأة كبيرة عن دعاة السلام الإسرائيليين الذين رفضوا التنكيل اليومي بالشعب الفلسطيني فكتبوا عنه وصنعوا أفلاماً طويلة وقصيرة تملؤها صورة الواقع السوداوية. الإعلام العربي أفرحته الفضائح الجنسية التي لاحقت الرئيس الإسرائيلي، لكنه لم يعترف ولو للحظة واحدة بأن الإعلام الإسرائيلي هو من كشف فضائح الفساد والسرقة التي تلاحق حكومته. هلل العرب لمحاسبة أولمرت الذي خسر معركته الأخيرة في لبنان. لكنهم لم يكترثوا للنداءات الإسرائيلية التي دوّت بعد الحرب لتطالب بإقالته وبفتح تحقيق لمحاسبته على اتخاذه قرار الحرب الخاطئ، وعلى تغييبه رأي المواطنين الرافضين لذلك الاعتداء.
الإعلام العربي يهرول وراء استطلاعات الرأي التي تبين انهيار شعبية بوش وأولمرت وبلير. استطلاعات رأي تكشف حقيقة مشاعر شعوب الأعداء الذين لا يرعبهم إبداء الرأي في تجاوزات زعمائهم، والذين لا يُحاسَبون على كرههم أنظمتهم القمعية. شعوب الأعداء التي تعيش على أرض الواقع وتلامس خلايا الفساد والضعف فيه.
ربما تكون وسائل العدو الإعلامية موجهة وتخدم مصالحه وتروّج لسياساته الخاطئة، لكن هناك وسائل إعلامية أخرى مستقلة ومهنية لا تتردد في الحديث عن معاناتنا وعن سياسات أوطانها العدوانية.
ليس الاحتلال الاسرائيلي سبباً كافياً لتخلّف قدراتنا، ولا الغزو الأميركي هو العامل الوحيد في الخراب الذي ينهش المنطقة. الخطاب الديني الذي يحارب الواقع المظلم بالترويج للحياة الخالدة في الجنة، والإعلام السطحي الذي لا تعنيه إلا لغة الشعارات والتدجين لهما نصيب كبير في انهيار قدرتنا على التقدم خطوة واحدة لنواجه عدو الأمة الغاشم.
عندما تصبح الشعوب العربية كشعوب الأعداء، قادرة على مواجهة الفساد الخانق والحديث عنه من دون أن تُخوّن، عندما تمتلك حقوقها المدوّنة في الدستور وتستعيد قدرتها على الحوار، ربما نسترجع حينها الحقوق العربية التي استلبها العدو. ربما نعيد ترتيب أولوياتنا حيث لا تكون ثقافة الموت هي شهيق الخطاب الإعلامي وثقافة الشعارات هي زفيره.
* كاتبة سورية