داود خير الله *
في بلد يتآكله الفساد والتشرذم الداخلي ويسود التنافس بين سياسيّيه وقادته على الارتهان بمشيئة مصالح وإرادات خارجية، تصبح المواقف الوطنية لافتة بقدر ما هي ضرورية. والمواقف الوطنية هي التي تمتاز بوضوحها وجرأتها في كل ما يصرف من نشاط وعمل في مصلحة الوطن. فالمواقف الداعمة لوحدة المجتمع والعاملة على ترسيخها في وطن يعاني الشرذمة والتفكك الداخلي، هي مواقف وطنية. والمواقف التي من شأنها بناء وتثبيت مقوّمات السيادة والاستقلال في مجتمع يستسهل سياسيّوه العمل بموجب إملاءات ومصالح خارجية هي مواقف وطنية. والمواقف التي يقدّم فيها القائد مصلحة الوطن العليا على المصالح الشخصية والطائفية والمذهبية وكل المشتقّات الفئوية هي مواقف وطنية. ولنقم بعرض وجيز لبعض المواقف التي اتخذها العماد عون وتيّاره الوطني الحرّ من بعض القضايا المهمة مقارنة بسواها لنستشفّ مدى استيحائها المصلحة الوطنية وانعكاسها عليها.
في صلب ما يميّز العماد عون والتيّار الوطني الحرّ عن كل الشخصيّات والحركات السياسية ذات التمثيل الشعبي على المسرح السياسي اللبناني، إدراكه أن النظام الطائفي وما يفرز من ثقافة سياسية هو في أساس ما يفرّق بين اللبنانيين وهو مانع الوحدة والانصهار الوطني وبالتالي العائق الأساسي دون بناء إرادة وطنية جامعة تكون هي ضمان السيادة والاستقلال. فكانت دعوة العماد عون الصريحة الواضحة لإزالة النظام الطائفي والفصل بين نفوذ السلطات والمؤسسات الدينية وشؤون الدولة ومؤسساتها. وكان ذلك في طليعة ما جذب ويجذب الى التيّار الوطني الحرّ ومواقفه العديد من الذين يدركون المآسي التي استولدها النظام الطائفي في لبنان عبر تاريخه الحديث ومخاطر الحواجز التي يقيمها في طريق الوحدة بين أبنائه، وكان الوقع الأهمّ لهذا المــــــــــــوقف على النخـــــــــبة الشابة من المثقفين.
والميزة الثانية المهمة التي تطبع الخطاب السياسي للعماد عون وتيّاره هي الموقف من الفساد والتركيز على مضارّه وضرورة مكافحته في كل قطاعات الدولة. ويعكس هذا الموقف إدراكاً لما يفعله الفساد في كل جسم يصيب. فطبيعة الفساد أنه بقدر ما يتجذّر في مؤسسة ما، يحرفها عن أداء الوظيفة التي من أجلها وجدت. فالفساد مانع أساسي من موانع إنشاء المؤسسات الأساسية في الدولة وتفعيلها. والفساد من قبل القيّمين على السلطة يقضي في ما يقضي على الثقة بين الحاكم والمحكوم ويحول دون قيام أجهزة الرقابة، الرسمية منها والخاصة من إعلام وسواه، بوظائفها فيتقلص حكم القانون وتحلّ المحسوبية محلّ الكفاءة وينتشر الإثراء غير المشروع مع انتشار النقمة الشعبية والشعور بالظلم، ما يصعّب التفاخر بالانتماء إلى مجتمع كهذا.
ويبدو أن الدافع الأساسي لكل المواقف والجهود التي يبذلها العماد عون والناشطون في تيّاره هو الرغبة في الانتماء الى مجتمع موحّد في وطن يكون في نظمه ومؤسساته وفي الدفاع عن سيادته وحقوق شعبه ومصالحه مصدر اعتزاز لكل مواطنيه. ففيما يسعى العديد من زعماء لبنان بمن فيهم بعض أعلى المراجع الدينية مدعومة بأجهزة إعلام ثري موجّه للاشتراك في تأجيج الاستقطاب الطائفي والاصطفاف المذهبي الذي يسهّل إشعال نار الفتنة، نرى العماد عون يعمل على إزالة الحواجز بين الطوائف وعلى إنشاء جسور من الحوار والتفاهم على ما فيه مصلحة الوطن.
وفيما يستغلّ العديد من المسؤولين مؤسسات الدولة وخاصة الأمنية منها إمّا في تعطيلها وإما في توظيفها لمصالح شخصية أو مذهبية، نرى العماد عون وتيّاره يطالبون بتحصينها وتفعيلها بصورة تصبّ في مصلحة وأمن الوطن بكل أبنائه في إطار سيادة القانون.
ولكن ربما كان أروع ما في مواقف العماد هو صموده في وجه النزعات الطائفية والأهواء الشعبية كلّما كان في ذلك الصمود مصلحة وطنية على الرغم من أي ثمن سياسي يمكن أن يدفعه في شعبيته، ما يبرز الصفات القيادية التي تميّزه من العديد من الزعماء السياسيين في الساحة اللبنانية وخاصة أسياد الإقطاع الطائفي والمالي. ولقد تمكّن العماد عون من أن ينزع عن العديد من اللبنانيين، وخاصة الذين ينتمون الى الطوائف المسيحية، العزلة والتقوقع والابتعاد لا بل معاداة المحيط الانساني والثقافي العربي الذي كان لهم دور أساسي في صنع يقظته. فتعالى عن كل الآلام والمظالم التي عاناها إبّان الوجود السوري في لبنان وبنى حدود خصومته لسوريا على تخوم وجودها العسكري والسلطوي على الأرض اللبنانية خلافاً للعديد من الزعماء اللبنانيين الذين بنوا عداوة لسوريا ونظامها تتعدّى الحدود والمصلحة اللبنانية بعد أن كانوا أكثر المدافعين عن شرعية الوجود السوري في لبنان وأكثر المستفيدين من فساده وتجاوزاته.
وإذا كان تغيّر اتجاه الرياح الدولية بالنسبة إلى سوريا هو العامل الأساسي في تبدّل مواقف أشدّ المعادين لسوريا حالياً من أقطاب السياسة في لبنان، فمن المنطقي أن يشعر اللبنانيون بأن العماد عون وتياره الوطني، انطلاقاً من مواقفه التاريخية وما بنى من تحالفات داخلية، ربما يكون الضمان الأهمّ لعدم عودة النفوذ السياسي أو العسكري السوري إلى لبنان اذا ما تغير مجرى رياح المصالح الخارجية بالنسبة إلى سوريا مجدداً، وهذا أمر لا يمكن استبعاده وخاصة من جانب متتبّعي مجرى الأحداث والتطورات في منطقة الشرق الأوسط.
وللعماد مواقف مشهودة من الأطراف الخارجية تتركز في جوهرها على مصلحة الوطن. فعندما كان همّ العماد هو جلاء النفوذ السوري عن لبنان أقام علاقات مع دول خارجية بما فيها الولايات المتحدة وفرنسا بغية المساعدة على جلاء القوات السورية. ولكن بعد خروج الجيش السوري من لبنان وتغيّر مجرى رياح المصالح الخارجية، امتنع العماد عن ركوب موجة المصالح الخارجية لأنه رأى فيها خطراً على أمن لبنان ووحدة شعــــــــبه وسلامته.
ويبدو أن قائد التيار الوطني الحرّ أدرك أن نزع سلاح المقاومة اللبنانية هو هدف كل المواقف والاجراءات والضغوط التي تمارسها القوى الخارجية وبخاصة الولايات المتحدة ومهما كان الثمن، وتحديداً حتّى لو كانت الحرب الأهلية والشحن الطائفي والمذهبي هما الوسيلة لتحقيقه. فكان منه أن اتخذ موقفاً هو في منتهى الحكمة إذ اعتبر أن سلاح المقاومة اللبنانية هو شأن لبناني داخلي يقرر مصيره اللبنانيون بما فيه مصلحتهم جميعاً من دون أي تدخّل أو ضغوط خارجية. فعل ذلك من دون أن يتنازل قيد أنملة عن قناعاته بأن الدولة هي المسؤولة بالدرجة الأولى عن الدفاع عن الوطن وعن حياة شعبه ومصالحه، وبأن مؤسساتها يجب أن تستأثر بحمل السلاح وقرار استعماله. ولكنّه أدرك كذلك أن حقّ الدولة ومؤسساتها في الاستئثار بحمل السلاح منوط بإرادة الدولة وقدرتها على القيام بواجبها في الدفاع عن الوطن وشعبه، ذلك أن حقّ الدفاع عن النفس هو حقّ طبيعي، أي حقّ لصيق بالطبيعة البشرية وسابق لظهور الدولة والقوانين الناظمة لشؤونها. من هنا صوابية الموقف من ان مصير سلاح المقاومة يجب ان يرتبط بسياسة دفاعية فعّالة يشترك في تنفيذها مؤسسات الدولة والوطن بكل أبنائه وطاقاته.
قد لا يكون العماد عون هو الوحيد بين القادة الوطنيين الذين عملوا ويعملون على وأد الفتنة الطائفية، لكنّ له من دون شك الدور الأهمّ في تجنيب لبنان اصطفافاً وشحناً طائفياً هو الطريق لحرب أهلية أخرى يعلم الله مدى أثرها في اللبنانيين جميعاً وخاصة مسيحيّي لبنان وربما المنطقة. إنها ربما المرّة الأولى منذ منتصف القرن الماضي التي يشهد فيها لبنان زعيماً يتمتّع بشعبية واسعة، وخاصة لدى طائفة أو طوائف معيّنة، يتّخذ خطاباً سياسياً ومواقف عملية تعكس قناعات بمساوئ النظام الطائفي وبأخطار الاصطفاف الطائفي على أمن لبنان وسلامته. من هنا يمكن أن نفهم الحملات المسعورة على العماد عون وخاصة في الصفّ المسيحي ومن الذين بنوا لأنفسهم أمجاداً ومراكز على المسرح السياسي اللبناني من طريق تأجيج المشاعر واستغلال المخاوف والهواجس والغرائز الطائفية. والسبب الآخر والأقلّ بروزاً في نقمة أصحاب السلطة هو موقف العماد من الفساد وما يعمل لأجله من إصلاح في المؤسسات العامة وتغيير في الثقافة الاجتماعية.
وعموماً، إن المواقف التي اتخذها العماد عون والتيّار الوطني الحرّ إن بالنسبة إلى الإصلاح الداخلي في كل وجوهه وإن في وأد الفتن الطائفية، هي خروج حضاري عن المألوف في الممارسات السياسية وخاصة تلك التي يتّبعها زعماء الإقطاع الطائفي التقليدي أو القابضون على قدرات مالية ضخمة توظّف في تشويه الواقع واستغلال هواجس ومخاوف المواطنين فضلاً عن حاجاتهم المعيشية. ولكن يجب أن يدرك الناشطون في التيّار العوني أن الصعوبات التي يواجهون والاتهامات المزيّفة التي يرشقون بها هي انعكاس لفعاليّتهم في عملية التغيير الكبرى التي يمرّ بها لبنان. فهنيئاً لهم صمودهم وجهودهم، فهم بحقّ طلائع في إعادة بــــناء مجتمع مــــــــــوحّد يصلح وطناً لجميع اللبنانيين.
* أستاذ في القانون الدولي في جامعة جورجتاون في واشنطن