خليل حسين *
ليس من قبيل المصادفة أن يأتي خطاب الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله بهذه الشدة في توصيف وتكييف الوقائع والملابسات التي أحاطت ببعض جوانب فترة العدوان الإسرائيلي على لبنان، فالظروف التي يمر بها لبنان اليوم هي أكثر من استثنائية إن لم نقل مرحلة تأسيسية في وقت تمر به المنطقة في أدق الظروف وأصعبها منذ ما بعد الحرب العالمية الأولى. فلبنان اليوم هو كلمة الفصل بين مشروعين متناقضين يُرسما للمنطقة، فإما شرق أوسط جديد يولد على أنقاض الفوضى الأميركية الخلّاقة، وإما شرق جديد ترسمه معالم تنامي قوى الممانعة والمقاومة بعدما تمكنت هذه الأخيرة من هزيمة المشروع الأميركي ــ الإسرائيلي في لبنان في حرب تموز الأخيرة. فالمواقف المعلنة في الخطاب، وإن بدت في واجهتها الأساسية موجهة إلى قضايا لبنانية داخلية، تعكس في جانبها الآخر انتقاداً لاذعاً لبعض أطراف السلطة وتصويباً مباشراً على السلوكيات السياسية لرئيس الحكومة وتياره السياسي بما يختص بالمواقف الرسمية من العدوان الإسرائيلي الذي مورس بضغوط على المقاومة أثناء العدوان وبعده وصلت في جوانب كثيرة منها حد الشبهة التي توصل بأصحابها ليس للمساءلة أو المحاسبة السياسية بل المحاكمة وفقاً للقوانين اللبنانية المرعية الإجراء.
وفي أية حال، لقد تضمّن الخطاب جملة أمور أقل ما يقال فيها تحديد المعارضة اللبنانية خياراتها المرحلية والمستقبلية بشكل واضح ودقيق لجهة ما يمكن أن يكون عليه لبنان بسياساته الداخلية والخارجية، وبالتالي تحديد موقعه المفترض وسط تقارير كثيرة تشير إلى بداية انهيار المشروع الأميركي في العراق تحديداً وما سيتركه من ظلال كثيفة على بقية المواقع الساخنة في فلسطين وأفغانستان ولبنان وبخاصة بعد صدور تقرير بيكر ــ هاملتون الأخير. ففي الجانب الداخلي للخطاب يمكن تسجيل العديد من النقاط التي رسمت خريطة طريق المعارضة في الجانب التنفيذي لتحركها المقبل، كما يبرز الإرادة والتصميم اللازمين لتحقيق الأهداف الرئيسة. وإذا كانت الصياغات اللغوية للخطاب تتسم بالشدة والحزم في مقاربة الأهداف والنتائج، فإن الخطاب لم يغلق باب المفاوضات المحتملة ولو كان ذا هوامش محدودة التحرك، وفي هذا الإطار يمكن تسجيل التالي:
ـــــ حتى تاريخه لم يتعد الخطاب حدود المطالبة بحكومة وحدة وطنية بثلث ضامن للمشاركة الحقيقية. وعلى الرغم من مستوى التحدّي في الخطاب السياسي لقوى الموالاة والإصرار على سياسة إغماض العين عن الحجم الحقيقي للمعارضة وإمكانات فعاليتها في التحرك الحالي، فإن الخطاب حافظ على الحد الأدنى من طموحات أي معارضة تمتلك هذا الحجم من القوة الفعلية القادرة على فرض التغيير حتى بوسائل أخرى لم تستعمل بعد.
ـــــ وفي السياق نفسه، وإن ترك الباب مفتوحاً على بعض الخيارات، فقد كانت لغة الحزم واضحة لجهة حث الحكومة على استغلال الفرصة الأخيرة قبل الانتقال إلى المرحلة الثانية من التحرك وهي بطبيعة الأمر نقلة نوعية ستزيد الضغوط على الحكومة لقبول ما كانت ترفضه في الفترة الأولى، باعتبار أن ما طرح من إمكانية توسيع الحكومة بالبيان الوزاري نفسه لم يعد مقبولاً وبات الأمر يتعلق بتأليف حكومة انتقالية يرأسها رئيس خارج الأكثرية النيابية الحالية على أن يكون من بين أهدافها الرئيسة إجراء انتخابات نيابية مبكرة، ما يعني أن هذه الحكومة ستخرج نهائياً من السلطة.
ـــــ إن اللافت في الخطاب ما قاله سماحة الأمين العام عن الحكومة المقبلة وبالتحديد عن حصة حزب الله في الوزارة، بمعنى أن الحزب مستعد لتقديم مقاعده الوزارية لحلفائه وهي ليست بقضية مستهجنة، ففي الأساس بذلت هذه الأكثرية بالتحديد جهوداً كبيرة لإقناع قيادة حزب الله بالمشاركة في هذه الحكومة والتي سبقتها أيضاً، على قاعدة الصدقية التي يتمتع بها الحزب في مقاربته القضايا، كما أنه أمر من شأنه أن يعطي ضمانات كبيرة للقرارات الاستثنائية التي يمكن أن تتخذها أية حكومة يشارك فيها.
ــ لقد كان الهاجس الأول والأخير للخطاب هو تأكيد وأد الفتنة المذهبية التي يحاول من في السلطة إشعالها في الداخل وهي بطبيعة الأمر من أركان استراتيجيا الفوضى الخلاقة التي يديرها المحافظون الجدد في الشرق الأوسط الكبير ــ الجديد، وهي خطة مكشوفة الأهداف والأدوات، فزيارة وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس قبل شهرين إلى كل من مصر والسعودية والأردن ولبنان قبلاً واجتماعها الشهير مع وزراء الخارجية العرب الثمانية في القاهرة أفضى إلى تصريح شهير لها، إما مشروعنا الشرق أوسطي وإما الفوضى الخلاقة في العراق وفلسطين ولبنان، واستتبعه العاهل الأردني ببشارة الحروب الأهلية في المنطقة. ومنذ ذلك التاريخ بدأت الأدوات اللبنانية سراً وعلانية بالمضي في هذا الاتجاه إلى أن وصلت الأمور إلى ما هي عليه الآن من تحريض مذهبي إعلامي وعملي وصل إلى حد التنفيذ الفعلي له عبر اغتيال الشهيد أحمد حمود أخيراً، إضافة إلى العديد من الأفعال الممنهجة والمدروسة التي تصب في هذا الإطارــ إن السابقة التي تضمنها الخطاب هي ذات بُعد استقلالي واضح، إذ أكدت أن حزب الله، كما يرفض وصاية الأميركيين وأعداء لبنان، يرفض وصاية «الشقيق والصديق» في تلميح غير مباشر إلى سوريا وإيران وهي المرة الأولى التي يُطلق فيها مثل هذا الموقف، الأمر الذي ينبغي سماعه جيداً من الطرف الآخر.
وفي الجانب الآخر من الخطاب الذي له علاقة مباشرة بسياسة لبنان الخارجية وتحديداً بموقع لبنان من الصراع العربي الإسرائيلي، كانت المفاجأة الفارقة في إفشاء بعض أسرار سلوكيات رئيس الحكومة وبعض القيادات خلال العدوان الإسرائيلي، إذ كانت بمثابة الشعرة التي قصمت ظهر البعير، بعد سلسلة من الوقائع والمواقف الملتبسة التي قضت على كل ما له علاقة بالثقة الواجب توافرها في أي علاقة سياسية ولو في حدودها الدنيا. وفي هذا الإطار يمكن تسجيل التالي:
ـــــ إن الإشارة إلى من طلب من الإدارة الأميركية بشكل رسمي التذرع بعملية «الوعد الصادق» لتنفيذ العدوان على لبنان، ومن ثم ممارسة الضغوط على المقاومة خلال العدوان لتسليم سلاحها أو بمعنى آخر الاستسلام، أمر من شأنه كشف خبايا وخفايا تلك المرحلة التي بدأت فصولها تتكشف شيئاًَ فشيئاً، ولا سيما بعد نشر العديد من التقارير الغربية عن تلك المرحلة ومنها تقرير «سيمور هيرش» الشهير وكذلك تقرير «أنطوني كوردسمان».
ـــــ إن كشف النقاب عن طلب رئيس الحكومة من قيادة الجيش مصادرة سلاح المقاومة أثناء العدوان لهو أمر خطير، ما يشكل خرقاً للفقرة السادسة من البيان الوزاري لحكومة السنيورة، إضافة إلى إمكانية مساءلته وفقاً لقانون العقوبات اللبناني.
ـــــ وعلى الرغم من كل تلك الفصول المثيرة التي بدأت تتكشف بعدما كانت تُتداول بشكل غير مباشر في معرض ردود الأفعال السياسية، ستتوضح أمور كثيرة ذات صلة بالموضوع لاحقاً ما يعني أن كثيراً من الأمور باتت غير قابلة لإصلاح ذات البين بين طرفي المعارضة والموالاة، إذ باتت الأهداف ووسائل تنفيذها واضحة تماماً.
ـــــ إن طبيعة الخطاب الاستراتيجية قد وضعت المعارضة في خط سير غير قابل للرجوع وهذا ما يتحمله فريق السلطة بعد رفضه كل المبادرات السابقة، كما فعل في جميع المحاولات السابقة، أكان في مؤتمر الحوار الوطني أم في جلسات التشاور التي لم تعد تنفع كما ورد في الخطاب، باعتبار أن المؤمن لا يُلدغ من الجحر مرتين.
ـــــ إن سياسة نفض اليد التي اعتمدها رئيس الحكومة في اليوم الأول للعدوان ولا سيما في بيان مجلس الوزراء الشهير والذي ترك المقاومة لمصيرها لهو أبلغ دليل على ما سيق له في الخطاب، هذا إذا تجاوزنا مواقفه الشهيرة قبل العدوان في قمة الخرطوم ومعارضته الشديدة إدراج دعم المقاومة في بيان القمة، معطوفاً على موقفه أيضاً في اجتماع وزراء الخارجية العرب في بيروت إبان العدوان الذي كرر النغمة نفسها، إبان حفلة الدموع الشهيرة التي سبقت حفلة الشاي الذائعة الصيت في ثكنة مرجعين، معطوفة أيضاً على تصريحات القيادات الإسرائيلية الداعمة بشكل مستميت لعدم إسقاط الحكومة، والتي توّجتها في بيانها الأخير في الاجتماع المصغر للحكومة الاسرائيلية التي اعتبرت ان سقوط حكومة السنيورة سيشكل خطراً على اسرائيل وسيكون مقدمة لحرب مقبلة مع حزب الله. إن طبيعة تحرك المعارضة في فصله النوعي الثاني سيكون مؤثراً وربما قاضياً بشكل متسارع لن يتوقعه البعض، فهل سيعود من بيدهم السلطة إلى رشدهم قبل فوات الأوان، أم قد سبق السيف العذل. إن تجارب الحكام مع معارضاتها في كل دول العالم مريرة جداً، وغالباً ما انتهت بالضربة القاضية، فالتاريخ لم يرحم أحداً وقف في وجه شعبه، والجغرافيا لم تبق لهم مرقداً يؤنس نهايتهم، فهل سيتكرر مشهد نوري السعيد وتكون العبرة للقريب والبعيد؟
* رئيس مصلحة الدراسات في مجلس النواب