عبد الإله بلقزيز *
سأسلّم ــ على مضض ــ بأن اللبنانيين لا يمارسون السياسة أصالةً عن النفس بل نيابةً عن الغير، وبأنهم يعتركون في ما بينهم ويؤججون ضغائنهم لمصلحة هذا النظام أو ذاك: في الإقليم أو في العالم. وسأسلّم ــ مكرهاً ــ بأنهم إن لم يكونوا قد استوعبوا معنى الكيان الوطني الجامع، ومعنى الدولة الوطنية المستقلة، من تلقاء أنفسهم وبمحض إرادتهم، فإنهم ــ على الأقل ــ وفّروا لغيرهم الأسباب والموجبات الدافعة إياه (=الغير) الى حمل أفعالهم السياسية على الانتظام في خط سير يتحلل فيه كيانهم ويتهالك فيهم استقلال قرارهم الوطني فيضيع عليهم معنى الكيان والاستقلال...
... وسأسلّم بأن اللبنانيين محمولون حملاً إكراهياً وقسرياً على إتيان فعل الولاء لهذا المركز الخارجي أو ذاك، أو على ممارسة السياسة والخوض في معتركات الصراع بمقتضى جداول أعمال وضعها غيرهم ورسم لهم أداء أدوار فيها، وبأنه لا خيار أمامهم سوى مجاراة هذا وذاك لكسب تأييده ودعمه، أو لاتقاء شرّه وشرهه، أو لغير ذلك من الاعتبارات...
... وسأنسى كل ما تعلمته من دروس في السياسة والاجتماع السياسي (بل والاجتماع الإنساني) عن نواميس التدافع والمدافعة والمنافسة، وعن الصراع الطبقي وصراعات المصالح، وعن قوانين المضاربة الاجتماعية والإيديولوجية على السلطة والموقع فأعتقد ــ مثل كثيرين في لبنان ــ أن السياسة في هذا البلد ليس يحكمها مبدأ المصلحة الاجتماعية ولا علاقات الإنتاج ولا الروابط الأهلية والمدنية ولا البنى والمؤسسات، وإنما تنقاد انقياداً الى أزرار الأوامر الاقليمية والدولية...
... وسأسلّم ــ افتراضاً ــ بأن لبنان ليس وطناً لأهله (لا سمح الله) بل ساحة، مجرّد ساحة، لصراعات الآخرين على أرضه، وأن طبقاته الاجتماعية هباء، وسياسيّيه «عملاء»، وجماهيره دهماء، وشعارات شارعه جوفاء، وبأن أقوياءه ضعفاء، وضعافه أقوياء بإرادة من لهم سلطان الحل والعقد من الغرباء...
... وسأسلّم بأن انقسامه اليوم إنما يوزع شعبه فريقين تابعين: واحد للسوريين والإيرانيين والثاني للأميركيين والفرنسيين، وان استعصاء خرقهما على الرتق إنما كان لتباعد الشقة بين محوري الوصاية عليه المتنابذين...
... وسأسلّم بذلك كله ــ على تهافت جله ــ فأسمح لنفسي بتوجيه نداء الى «الفاعلين» (الإقليميين والدوليين) الذين «يحرّكون» «الأشباح» اللبنانيين من وراء حجاب فأقول:
ارفع يدك أيها النظام السوري عن لبنان ودع اللبنانيين يختارون مستقبلهم السياسي بحرية، وتوقف عن محالفة فريق منهم ضد آخر، فانقسام البلد لن يفيدك ولن يزيد غيرك من القوى الدولية سوى رغبة في تدخل مضاعف فيه. ماذا تريد من لبنان بعد ان انسحبت منه: ضمان أمن سوريا؟ وهل من ضمان هناك أكبر مما قدمته المقاومة في مواجهة اسرائيل؟ وهل من ضمان أكبر من ذاك الذي يعلنه معارضوك في لبنان من ان بلدهم آخر من سيوقّع معاهدة مع اسرائيل؟ تخاف على عروبة لبنان؟ عروبة لبنان يحميها أبناؤه وميثاقهم ودستورهم ورابطتهم الكيانية، وهي ليست برسم الاستيراد.
وأنت أيها النظام الايراني، كف عن مد نفوذك الى لبنان أو تحويله الى حقل رماية في مواجهة اسرائيل، ودع المقاومة الاسلامية تتمتع بشخصيتها الوطنية ليتسع نطاق احتضانها من اللبنانيين «كافة» أو من القسم الأعظم منهم. واذا كانت بغيتك من لبنان أن تستنزف أعداء الأمة، فإنك تستطيع ان تفعل ذلك قريباً من بلدك إن دعمت المقاومة الوطنية العراقية في كفاحها من أجل دحر الاحتلال الأجنبي.
أما أنت يا نظام جورج بوش، فيكفيك ما فعلته سياساتك بالعراق وأفغانستان وفلسطين من إنتاج الاقتتال الداخلي ومشاريع الاقتتال الداخلي حتى تريد أن تضيف لبنان! أنت منحاز لإسرائيل المعادية للبنان، ففسر لي كيف تكون صديقاً للبنان الذي تبرعت على أهله وعمرانه بصواريخك الذكية؟! وما رأيك في ان نصف اللبنانيين لا يريد صداقتك و«محبتك» للبنان، وفي هؤلاء من يتطيّر من سماع اسمك حتى. لقد جرّب أسلافك التدخل في لبنان، فماذا كانت النتيجة؟ اتعظ بدروس الماضي والحاضر وكفّ يد سفيرك ولسانه ولا تلوّث سمعة «14 آذار» أو سمعة حكومة الرئيس السنيورة. تريد الديموقراطية في لبنان كما تزعم؟ اللبنانيون يقيمون نظامهم الديموقراطي بمحض إرادتهم وبحوارهم الوطني، وهو في كل الأحوال في غنى عن «ديموقراطيتك» المثالية والعظيمة في العراق!
وأخيراً، فإن خير ما تفعله للبنانيين ــ يا فخامة الرئيس جاك شيراك ــ هو أن تعتذر لهم عن الحقبة الاستعمارية، وأن تعتذر للأبناء والأحفاد عما فعلته عساكركم ضد الآباء والأجداد. وأنا أنصحك بأن تنسى أمجاد بلدك الاستعمارية في المشرق العربي ــ كما في المغرب العربي ــ وأن تحترم سيادة اللبنانيين فلا تتدخل في شؤونهم وكأنك تدير مستعمرة من مستعمرات فرنسا القديمة! سياستك العربية أصبحت وبالاً على فرنسا وعبئاً ثقيلاً على مصالحها في منطقتنا. ماذا فعلت في لبنان غير أنك حوّلت فرنسا الى وصيفة تتوج سلطان السياسة الأميركية في هذا البلد! كان نفوذ فرنسا أفضل في لبنان إبان الوجود السوري. جرّب أن تأخذ اليوم شيئاً من الأميركيين غير أن تكون حامل رسائل بينهم وبين اللبنانيين! دع «حركة 14 آذار» بريئة من تهمة الارتباط بك والتفت الى وضعك الداخلي المتداعي والى سياساتك التي تضع الفرنسيين اليوم أمام خيار بين ساركوزي وجان ماري لوبان؟!!
... لنفترض ان هذه المناشدة ــ وهي ليست شخصية لأنها تجري على ألسن الآلاف من الناس ــ وصلت الى أصحاب القرار في هذه الدول الأربع، وأن الأخيرة كفّت عن التدخل في شؤون لبنان وكف السفراء والمبعوثون عن حشر أنوفهم في مطبخه السياسي. ولنفترض ان اللبنانيين استفاقوا يوماً على حال لا يحملهم فيها هاتف من سفارة أو من عاصمة خارج الحدود على إتيان فعل سياسي ما، وانه بات في وسعهم ان يأخذوا من القرارات ما شاؤوا على مقتضى إرادتهم...، لنفترض ذلك كله: هل سينتهي انقسامهم؟ هل سيتوقفون عن الشك المتبادل في طوية بعضهم؟ هل ستوحدهم السياسة مثلما وحدهم صوت فيروز؟
قطعاً لا، سيستمرون في خلافاتهم، وسيظلون منقسمين الى يمين ويسار والى سلطة ومعارضة، وسيبقى الصراع متأججاً بينهم على السلطة والأقساط والحصص. ان صراعهم سياسي وإن لبس لبوساً طائفياً ومذهبياً، وانقسامهم سياسي يشق الطوائف كافة على تفاوت بينها في درجة استنفار العصبية. ثم انه صراع داخلي وإن ركبته الدول والأقاليم وبدا خارجياً. واللبنانيون شعب وفئات وطبقات وعصبيات أهلية تقليدية وليسوا جاليات أجنبية مقيمة في لبنان.
ما أسخف فرضية الخارج في سجالات الداخل اللبناني وما أبعدها عن أبجديات التفكير السياسي، بل ما أخبثها في ممارسة الطمس والإخفاء للأسئلة الفعلية: الخيارات الاقتصادية، توزيع الثروة، توزيع السلطة على مقتضى مواطني، تحرير المجال السياسي من العلاقات الأهلية العصبوية (الطائفية، المذهبية، المناطقية، العائلية...)، الفساد المالي والإداري، الإنماء غير المتوازن للمناطق، ومثيلات لها من الأسئلة المغيّبة تغييباً.
ليتوقف هذا التراشق الكلامي بتهم العمالة والممالأة للأجنبي بين اللبنانيين، فهو ليس من السياسة في شيء، ولينصرفوا الى الحوار أو الى ممارسة الاعتراض المتبادل بوصفهم لبنانيين يتباينون في المصالح ويختلفون في الرؤى لا بوصفهم فريقاً في عين آخر مجرد شبح لقوة إقليمية أو دولية. وبين أن يمارس اللبنانيون السياسة في حدود الضيعة والطائفة وبين أن «يمارسوها» في الحدود الإقليمية والدولية ــ على ما وهم أكثر سياسييهم ــ يليق بهم ان ينتبهوا الى ما ذهلوا عنه: حدود السياسة هي حدود الوطن ولا مجال لأدوار ميكرو ــ سياسية أو ماكرو ــ سياسية.
* استاذ في جامعة محمد الخامس- الرباط