بولس الخوري *
متى كان مجتمعٌ من المجتمعات قد عانى محنة الانحلال، وأخذ يبحث عن الوسائل التي بها يستعيد تراصّه ووحدته، تبادر أوّلاً إلى الذهن التفكير في الثقافة والدين والسياسة. ذلك أنّ هذه العناصر الثلاثة هي التي تجعل المجتمع متوحّداً أو متفتّتاً، لأنّ عليها تقوم هويّة المجتمع وديناميّة التغيير التي تجعل المجتمع يعيش في حاضر التاريخ ويواكب مسيرته. وهذه هي، على ما يبدو، حال المجتمع اللبنانيّ. فلبنان قد عانى ويلات فتنة دامت طويلاً، تلاها زمن كان فيه خلل في الأمن وكان فيه فساد كثير في أرضه. وهو الآن في طور استعادة أنفاسه ليتكوّن من جديد مجتمعاً متراصّاً يحضن جميع أبنائه.
هل لهذا المشروع حظّ في أن يتحقّق، ذلك موضوع عزم وتصميم، وموضوع ثقة بأنّ لبنان سيقوم في هيئة جديدة بهيّة. لكنّ هذه الثقة يجب أن لا يفشلها واقع العلاقات الاجتماعيّة التي تحوّلت من علاقات أخوّة وتكافل إلى علاقات تباعد وبغضاء بين مجموعات انغلق كلٌّ منها على ذاته. فبدا كأنّ كلّ مجموعة قصرت حبّها للبنان على حبّها لبعض اللبنانيّين أي للذين تتكوّن منهم المجموعة، باعتبار أنّ غيرهم ليسوا كاملي اللبنانيّة بل هم فاقدوها.
لذا وجب النظر في أحوال الدين، لأنّ السياسة في الشرق، منبت الأديان، هي في الأساس وظيفة دينيّة. إذاً كان الدين أساس الخلل السياسيّ والدواء الناجع لهذا الداء. وذلك على الرغم من التصريح بأنه لا دخل للطوائف في الصراع القائم وفي الخيارات المختلفة والمتناقضة التي من شأنها توفير الخير العامّ. فقد يكون الصراع في الظاهر ليس على الغايات بل على الوسائل أو بالحريّ على تصوّر الغايات. والدين، من جهته، يحيل على الثقافة، لكون الأنظومة الدينيّة إن هي إلاّ صورة عن الأنظومة الثقافيّة، ولكون هذه الأنظومة الثقافيّة إن هي إلاّ صورة موضوعيّة عن الذهنيّة أي الأنظومة الذاتيّة. فوجب الرجوع إلى الذهنيّة، حيث الداء والدواء. فإذا ما تمّ العلاج على مستوى الذهنيّة وتكوّنت ذهنيّةٌ جديدة قامت على العقلانيّة النقديّة، أمكن إصلاح المفاهيم والتصرّفات الدينيّة والسياسيّة. إذّاك يكون لبنان قد تحوّل من كونه مجتمعاً تسوده الأهواء إلى كونه مجتمعاً يحكمه العقل.
أمّا في الواقع الآنيّ، وقبل الشروع في تحقيق المشروع، ولكي يكون السير في الطريق السويّ، فيجدر بنا الإقرار بأنّ لبنان مصاب بأوجاع، يمكن الكشف عنها في مكامن الداء، أي في السياسة، وفي الدين، وفي الثقافة أي الذهنيّة.
متى كان وجع لبنان في سياسته، فذلك دليل على أنّ وجعه في أديانه. ومتى كان وجعه في أديانه، فذلك دليل على أنّ وجعه الأصليّ هو في ثقافته، أي في ذهنيّة اللبنانيّ الأساسيّة، ذهنيّة اللبنانيّين المشتركة.
أمّا الوجع السياسيّ، فإنّه يتجلّى في كون المجتمع اللبنانيّ تحلّل وصار أجزاء تتصارع على البقاء بإلغاء الآخر أو بالهيمنة عليه. فصرنا مجتمع العنف والتكاذب، حتّى في التجمّع للحوار والتشاور.
أمّا الوجع الدينيّ، فإنّه يتجلّى في كون الدين لم يعد الملاذ في زمن الوجع السياسيّ. ذلك أنّ الدين تقيّد وتكبّل في أنظومة مؤسّساته، ففقد وظيفته الجوهريّة ومبرّر وجوده. فأطفأ شعلة الإيمان أي طلب المطلق، بدلاً من تنشيطها، وبالتالي العمل على أنسنة الناس. فبدلاً من تنشيط القيَم الدينيّة المشتركة، تسيّست الأديان فتمترست في الانقسام وتصارع الطوائف، ولو قيل إنّه لا دخل للطوائف في الصراع السياسيّ القائم.
أمّا الوجع الثقافيّ، فإنّه يتجلّى في كون أنظومة التصوّرات والمواقف قد اختلّت وفقدت قدرتها على التكيّف. وذهنيّتنا عادت إلى شكلها العتيق البالي. وأساس الوجع هذا أنّ الإنسان لم يعد يتحكّم بأفعاله، ففقد السيادة على نفسه. فكان من مواصفات الذهنيّة انعدام الثقة بين المواطنين وبين مجموعات المواطنين، فالاتّهام المتبادل بإخضاع الوطن لمؤثّرات أجنبيّة.
أيّ الدواء يشفي هذا الوجع المثلَّث الأوجه؟ لا يفيد الدواء المستورَد ، لا من أميركا والغرب، ولا من إيران وسوريا، علماً أنّ كلّ فريق يدفع عن نفسه تهمة العمالة أو التبعيّة. ففي العالم، جميع المجتمعات تعاني أوجاعها، وكلٌّ منها يرى نفسه مضطرّاً إلى أن يعالج نفسه بنفسه، مستفيداً ممّا يحدث لغيره. وكلٌّ منها يشفي نفسه بدءاً بشفاء وجعه الثقافيّ. ذلك أنّ الثقافة هي في آن واحد الداء والدواء، وهي الدواء لأنّها هي الداء.
كيف يكون لثقافةٍ أصابها الاختلال أن تشفي نفسها وأن تكون هي الدواء الناجع للمجتمع؟ يكون لها ذلك لكون الداء يُنهض الوجدان المستكين في راحته وغفوته. عودة الوعي هذه تمكّن المجتمع العليل من مداواة نفسه بنفسه. ولعلّ الوعي لا يعود إلاّ بفعل صدمة تجعل المتخاصمين يرون الهوّة التي انفتحت لتلتهمهم جميعاً. فإذا كان وجعنا الثقافيّ هو اللاعقلانيّة، كان الدواء هو العقلانيّة، أي الروح النقديّة.
إذّاك كانت المعالجة بالتدريج. فالخطوة الأولى هي النقد الذاتيّ الذي يمكّن من التثبّت من الداء ومن أسبابه، بهدف التوجّه إلى اكتساب ذهنيّة عقلانيّة. ومن الذهنيّة العقلانيّة أن يكون المواطن يستمع إلى المواطن الآخر، فيحاول كلٌّ منهما أن يلبّي الحاجة الجوهريّة لكلٍّ منهما. هذه الخطوة، إذا وفت بالمطلوب، مكّنت من إصلاح أحوال الدين، وذلك بالعمل على أن تستعيد الأنظومة الدينيّة مبرّر وجودها، أي وظيفتها الجوهريّة، وهي أن تكون التعبير عن الإيمان أي عن طلب المطلق، وأن تكون تعبيراً يدركه الناس فيعيشون بموجبه. وفي المرحلة الثالثة، يكون إصلاح السياسة بابتداع تنظيم للحياة الجماعيّة يتوافق مع واقع المجتمع، ويتوجّه إلى الخير العامّ. إذّاك يكون مجتمعنا اللبنانيّ قد انتقل من كونه مجتمع العنف والتكاذب إلى مجتمع الحوار والحقيقة، ومن مجتمع النهم إلى مجتمع العطاء، ومن مجتمع الأهواء الحيوانيّة إلى مجتمع العقل والإنسانيّة.
*كاتب لبناني