إيلي نجم *
لماذا يطلب اللبنانيّون من رجال الدين ما يطلبه سواهم من أهل السياسة عامّة، فيحتكمون إليهم بغية رفع ظلامة وإحقاق حقّ؟ أتراهم يفهمون نظامهم الديموقراطيّ التمثيليّ أنه حكم الشعب بوساطة الذين يمثّلون الله على الأرض، وليس بوساطة الذين يمثّلونهم في البرلمان؟ فهل يعني أنّ سلطة رجل الدين عندنا هي فوق سلطة الحاكم في الدولة؟
يقول البعض إنّ رجال الدين يتكلّمون حين يصمت أهل السياسة. الواقع أنّ هؤلاء يتكلّمون بما فيه الكفاية. بل إنّهم يلوكون المفردات ويجــــــــترّونها اجتراراً بحيث تفقد معنــــــــــاها. ويبدو أنّ الناس عندنا لا يقيمون لخطابهم وزناً يوازي الوزن الذي يقيمونه لخطاب رجال الدين الذين يحظون باهتمام هؤلاء الناس وثقتهم ومحبّتهم، فيطلبون منهم حمايتهم من أهل السياسة وحماية هؤلاء من ذواتهم أي من المتسلّط والجائر الهاجعَين فيهم!
ولعلّ اللبنانيّين نسوا الدعوة التي كان قد وجّهها أحد الرؤساء السابقين للجمهوريّة اللبنانيّة إلى رجال الدين، وناشدهم فيها الامتناع عن التعاطي في الشأن العامّ. بالمقابل، يقول البعض إنّ رجال الدين هم من الشعب، ولئن أخذوا من العلم والثقافة نصيباً وافراً وتحلّوا على العموم بمناقبيّة عالية، فإنّه يحقّ لهم، قياساً على ما يحقّ لمن هم دونهم علماً وثقافة ومناقبيّة، أن يتعاطوا الشأن السياسيّ، ولا سيّما أنّ الأحزاب والجمعيّات وأهل السياسة عموماً قد تقاعسوا عن العمل أو أحجموا عن التحرّك أو تواطأوا في ما بينهم ضدّ مصالح الناس، أو أنّ تحرّكهم لن يجدي نفعاً، لأنّه محكوم بفرديّتهم العمياء ومصالحهم الضيّقة وطائفيّتهم البغيضة، فضلاً عن ارتباطاتهم الخارجيّة. ولعلّ إيثار اللبنانيّين التوجّه إلى رجال الدين يعود إلى إيمانهم الراسخ بأنّ «الله أحقّ بالطاعة من الناس» (أعمال الرسل 5: 29). إلّا أنّه ينبغي التأكيد:
1ــ أنّ تدخّل رجل الدين في السياسة يجعله عرضة للنقد، لأنّ ما يقوله ويراه ويفعله ليس مُنْزَلاً، ذلك لأنّ الحقيقة السياسيّة تاريخيّة ومركّبة: إنّها حصيلة آراء الناس وتطلّعاتهم إلى ما يكفل وجودهم اليوميّ والمستقبليّ ويمكّنهم من ترجمة إمكاناتهم أقوالاً وأعمالاً وأفكاراً. والسؤال: هل يتعاطى رجل الدين السياسة بصفته مواطناً أم بصفته رجل دين؟
2ــ أنّ لرجال الدين مصالح ينبغي على المؤمنين عدم نسيانها أو تناسيها: إنّهم ينازعون أهل السياسة السلطة على البشر، أي إنّهم يلتمسون الدين لتأكيد شرعيّة السلطة التي يحكمون المؤمنين بموجبها. والسؤال: عندما يرد الكلام على أنّ «الله أحقّ بالطاعة من الناس»، فهل يُتاح لنا حقيقةً أن نفاضل بين طاعة الله وطاعة الناس؟
3ــ أنّ السلطة التي يمارسها رجال الدين (وأيّة سلطة) لا يمكن أن تغدو تسلّطاً بأيّ حال من الأحوال. إنّ علينا أن نميّز بوضوح الدين من رجال الدين. فالحقيقة الدينيّة قد تكون فوق الشبهات، وقد تتعالى على التاريخ لأنها تنال جوهر الإنسان في دنياه ومعاده. أمّا رجل الدين، فإنّه بحاجة دوماً إلى إرساء السلطة التي يمارسها على المؤمنين (أي قبول المؤمنين حقّه في الأمر) من خلال شهادته على قيم الدين السامية. والسؤال: هل يحقّ لرجل الدين أن يستبعد البعض ويرشقه بتهمة الخروج عن الدين أو عليه، فيطلق بحقّه أحكام الرِّدّة والكفر والزندقة والإلحاد، وهو ما تعرّض له قديماً، على سبيل المثال، الفيلسوف الهولنديّ اليهوديّ الأصل باروخ دو سبينوزا، والمفكّر الإيطاليّ جوردانو برونو، وأخّيراً، المفكّر المصريّ نصر حامد أبو زيد؟
فضلاً عن ذلك، وأيّاً كان الجواب عن هذه الأسئلة الثلاثة، ينبغي التذكير أنّ قيم الديموقراطيّة في الحرّيّة والعدالة والحقيقة هي قيم إنسانيّة، وبالتالي دينيّة بامتياز. وعليه، فإنّ رجال الدين ملزمون، من حيث المبدأ، الدفاع عنها والانتصار لها. فالحرّيّة قِوام الدين والإيمان الدينيّ، أيّاً كان هذا الإيمان وذلك الدين، وإلّا، لِمَ نُدان في اليوم الآخِر؟ وأيّ معنى للآية القرآنيّة الكريمة «لا إكراه في الدين» (البقرة 256)؟ والعدالة (التي ترادف في لساني العربيّ المساواة) والحقيقة البشريّتان هما انعكاس لـ«العدل» و«الحقّ»، وهما من أسماء الله الحسنى. وعليه، فإنّ التزام رجال الدين قيَم الديموقراطيّة يجعلهم يجاهدون في سبيل الله والإنسان من أجل إقامة «مدينة الله» في الأرض، بحسب القدّيس أوغسطينوس. أضف أنّ هذه القيَم تصلح لتكوّن الأساس الذي يمكّـــــــــــننا من تفعـــــــــــيل الحوار بين الأديان وترشيده.
من جهة أولى، يقول آية الله محمّد خاتمي إنّ العلمانيّة ليست بالضرورة مواكبة للديموقراطيّة. بالمقابل، يربط رئيس الجامعة الأميركيّة في بيروت، جون ووتربري بين الديموقراطيّة والعلمانيّة على نحو مطلق. وهو الأمر الذي ينطوي على مغالطة من حيث إنّ هذا الربط يحيلني إلى واقع تاريخيّ معيّن، هو واقع الديموقراطيّات الغربيّة الراهنة (راجع في هذا الخصوص جريدة النهار البيروتيّة بتاريخ 24 و25 و26 تمّوز 1997، وردّي على رأيه في الإسلام والديموقراطيّة، في النهار، بتاريخ 20 آب 1997). من جهة ثانية، في رسالة وجّهها في عام 2001 إلى الإيرانيّين بمناسبة عيد المولد النبويّ الشريف، وصف مرشد الجمهوريّة الإسلاميّة في إيران آية الله علي خامنئي الانتخابات التي جدّد بوساطتها سبعة وسبعون بالمئة من الناخبين الإيرانيّين ثقتهم بالرئيس محمّد خاتمي، بأنّها مثال حيّ على «الديموقراطيّة الدينيّة». من جهة ثالثة، وفي الإرشاد الرسوليّ «رجاء جديد للبنان»، جاء في الصفحة 24، الفقرة 15 أنّه «من الأهمية بمكان ألّا يستسلم البلد والمنطقة إلى ظاهرة الدَنْيوة (أو العَصْرنة)». والدَنْيوة أو العَصْرنة هو المصطلح اللسانيّ العربيّ الذي ينبغي أن يقابل المصطلح الفرنسيّ sécularisation الذي ورد في النصّ الأصليّ والذي صيغ أساساً من الفعل الإنكليزيّ to secularize، وهو يعني الفصل بين الشأن الدينيّ والشأن السياسيّ، أي بين السلطة الدينيّة والسلطة السياسيّة.
أخلص إلى القول إنّ التطبيقات الديموقراطيّة قد تنتج أيضاً من التزام قيم الديموقراطيّة التزاماً دينياً، ولا سيّما أنّ هذه القيم هي قيم دينيّة بامتياز، كما مرّ معنا. فالديموقراطيّة التي قامت في الغرب، إنّما قامت على مساومات ومفاوضات أفضت إلى قيام «ديموقراطيّة من دون ديموقراطيّين». أمّا الديموقراطيّة التي أتطلّع إليها، فإنّها تقوم على التزام قيمها التزاماً دينيّاً وإنسانيّاً. عندئذ، تغدو الحاجة ملحّة إلى قيام مواطنين ملتزمين، من رجال دين ومؤمنين، يجاهدون في سبيل الله والإنسان.
* كاتب وباحث لبناني